Tamav Irene

 

في مدينة جرجا الصغيرة التي تقع على ضفاف النيل في صعيد مصر وقبل سنة ١٩٤٠ بقليل ولدت الطفلة فوزية وكانت الطفلة الاولي التي رزق بها يسى وچنفياف ومنذ ولاداتها كانت ثمرة مختارة وكانت مهمتها واضحة «دي مش بتاعتكم دي بتاعتنا … لكن اهتموا بتربيتها» كانت هذه هي كلمات السيدة العذراء لوالدتها في رؤويا اثناء الولادة وفي سن صغير جداً ظهر اهتمامها البالغ بالحياة الرهبانية وفي العقد الثاني من عمرها التحقت بدير الشهيد العظيم أبوسيفين بمصر القديمة وسميت الراهبة ايريني وفي اكتوبر ١٩٦٢ بعد نياحة الام كيريا رئيسة الدير تم رسامتها كرئيسة للدير وكانت وقتها اصغر الراهبات سناً. لقد رأي فيها البابا كيرلس السادس الذي كان يعتلي وقتها كرسي مارمرقس الرسول انعكاس لحب الله وقداسته ورأى ايضاً فيها الصفات الفريدة التي تجعل منها الرئيسة المؤتمنة على الراهبات بالاضافة ايضاً الى نسكها الشديد"لقد عاشت تماف ايريني حياة روحية عميقة من النادر وجودها في عصرنا الحديث ولقد رحلت هذه القديسة العظيمة الى مسكنها السمائي يوم الثلاثاء ٣١ كتوبر ٢٠٠٦ بعد خدمة ٤٤ عاماً كرئيسة لدير الشهيد العظيم فيلوباتير مرقوريوس أبوسيفين بمصر القديمة.

الكلام عنها لاينتهي وهذا الموقع مخصص لها وللشهيد العظيم أبوسيفين.

 

لقرأة قصة حياة أمنا ايريني بالعربية والانجليزية والالمانية وقصة حياة ابوسيفين بالانجليزية والفرنسية اذهب الى صفحة الكتب في هذا الموقع

 

ولدت الطفلة فوزية (أمنا إيريني بعد الرهبنة) قليلا قبل عام ١٩٤٠ ميلادية بقليل من أبوين تقيين، الأب يسى خله والأم چنيڤياڤ متى الفيزي، وقد عُرفا بقداستهما وعمق حياتهما مع الله وشركتهما الحية مع القديسين وتسربلهما بفضائل عديدة خاصة عمل الرحمة. كما اتسما باتساع مداركهما وحكمتهما المستنيرة في تربية اولادهما. نمت في هذا الجو الروحي هذه الثمرة المباركة التي كانت الهدية المختارة من السماء منذ لحظة ميلادها لتكون سفيرة لعالم السمائيين.

تعثرت الأم أثناء ولادة طفلتها البكر ورغم آلامها المبرحة رفضت الذهاب إلى طبيب. تأثر والدها الخواجة متى لآلامها، فتوجه إلى كنيسة الشهيد مارجرجس في طهطا وظل يصلي ويبكي لكي يتحنن الله على ابنته بصلوات الشهيد مارجرجس لكي تضع مولودها بيسر وتقوم بسلام.

السيدة العذراءفي نفس الوقت كانت چنيڤياڤ تصلي بدموع كثيرة وتطلب معونة القديسة العذراء مريم. وفي شدة آلامها أضاءت الحجرة بنور سمائي بهي جداً وظهرت لها والدة الإله وخلفها الشهيد العظيم مارجرجس وتقدم الشهيد وخبط بيده على ظهرها ثلاث مرات، وفي الحال نزلت طفلة جميلة تلقتها السيدة العذراء على يديها ورشمتها بعلامة الصليب وقدمتها لأمها قائلة:

«دي مش بتاعتكم دي بتاعتنا.. لكن اهتموا بتربيتها. »

وعلى الرغم من فرحة الأسرة بالمولودة الجميلة، إلا أن الوالدان كانا قلقان لأنهما فسرا كلام السيدة العذراء بأن فوزية لن تعيش طويلاً ولازمهم هذا الشعور في كل تصرفاتهما معها وحرصا على تربيتها بكل الرعاية والحب والحنان الزائد.

وفي حفل عائلي بهيج نالت الطفلة المباركة سر المعمودية المقدس على يد الأنبا بطرس أسقف أخميم وسوهاج  (١٩٢٠ م – ١٩٥١م) في دير الأنبا شنودة رئيس المتوحدين الذي أخبرهم بأنه رأى القديس العظيم الأنبا شنودة يباركها أثناء إخراجها من جرن المعمودية. لاحظت الأسرة أن العناية الإلهية تحيط بابنتها البكر وتؤازرها.

وذات يوم بينما كان الوالدان في زيارة في منزل الجد – والد الأم – ومعهما طفلتهما التي كانت لا تزال تحبو وكان عمرها وقتها يتراوح ما بين ثمانية أشهر وسنة وعند المساء صعدوا جميعاً إلى سطح المنزل وكانت چنيڤياڤ تحمل ابنتها على ذراعيها .. وأبدت فوزية رغبتها في اللعب على الأرض، لكن أمها رفضت خوفاً عليها .. ولكن أمام إصرار الطفلة، قالت الجدة لابنتها :
“يابنتي نزلي بنتك وخليها تلعب على الارض “.

الانبا شنودةاستجابت چنيڤياڤ وتركت الطفلة تلعب، ولكن بعد فترة أخذت فوزية تصرخ وأصبح جسمها كقطعة الثلج وفقدت الوعي وظنوا أنها ماتت، وأسرع الجد لاستدعاء طبيب.

أثناء ذلك رأت الأم عقرباً على الأرض، فعرفت أنه لدغ فوزية .. فصرخت : ” أرصده يا أنبا شنودة” (عادة ما يطلب كل من يلدغ من حية أو عقرب الانبا شنودة رئيس المتوحدين لانقاذه) وفي الحال رأوا القديس يأتي طائراً في الجو واخذ الطفلة من حجر والدتها ونفخ في وجهها ورشم على جبهتها علامة الصليب وقال :

“ما تخافيش عليها دي بتاعتنا”

وعلى الفور استردت فوزية وعيها وأصبح ذلك اليوم عيد ميلاد جديد لها، وظلت كلمات القديس “دي بتاعتنا ” عالقة في ذهن الأهل مما جعلهما يخشيان باستمرار من حدوث شيء أليم لابنتهما “. ومنذ ذلك الوقت التزمت الأسرة بالذهاب سنوياً إلى دير القديس العظيم الأنبا شنودة رئيس المتوحدين ومعها عطايا كثيرة إلى أن التحقت الابنة البكر بالحياة الديرية وبعدها أيضاً داوم الأب على زيارته السنوية وظل هذا القديس العظيم مرافقاً لفوزية طوال حياتها الرهبانية.

وسنذكر المواقف الكثيرة التي تجلت فيها مساندته لها فيما بعد.. وقد بارك الله الأسرة وأصبحت هذه الابنة المباركة شقيقة لأربع بنات وولدين.

 

ترعرعت فوزية في هذا الجو الروحي وكانت شديدة الالتصاق بوالدتها البارة، وقد سجلت لنا الكثير من المواقف التي علقت بذهنها، فتقول :

“تعلمت الصلاة وعمل المطانيات من والدتي التي كانت تصلي صلاوات نصف الليل والسواعي كلها وتقسمهم حسب وقتها. كنت وأنا طفلة صغيرة جداً كلما رأيتها تدخل حجرة الصلاة وتغلق الباب أتسحب وأدخل بهدوء وأقف بجوارها. وأول مرة شفتها بتعمل مطانيات أخذت أبكي وأصرخ لأني رأيتها تقوم وتسجد، فتوقفت عن الصلاة وأخذتني في حضنها وطبطبت عليا وقالت لي :

“أنا بأسجد لبابا يسوع، لربنا”.
فقلت لها : ” طيب ليه بتعملي كده ؟!”
فردت : ” أنا باركع، اعملي زيّ. وفعلاً بقيت اركع زيها .. بعد ذلك اعتدت أن ألازمها طوال اوقات صلواتها ودموعها الغزيرة، فحفرت في أعماقي من طفولتي المبكرة كيف يكون الخشوع في الصلاة والانسحاق في المطانيات”.


اتذكر أيضاً يوماً ما رأيت والدتي تقف أمام الشباك وهو مفتوح في عز الشتاء في شهر كيهك وكان يطل على كنيسة الشهيد مارجرجس في جرجا. وكنت صغيرة في ذلك الوقت فقلت لها :
” إنت واقفة ليه هنا يا ماما ؟” فأحضرت كرسي وأوقفتني عليه بجوارها وقالت لي :
” إنتي سامعة الصلاة ؟” فقلت لها : ” أيوة يا ماما ” وسمعنا قداس جميل جداً من أوله لآخره من خلال الشباك. وتكرر سماعنا لمثل هذه القداسات المعزية في أوقات متأخرة من الليل.

وذات مرة سألت والدتي كاهن الكنيسة عن سبب إقامة القداسات ليلاً، فأخبرها بأنه لا يقيم قداسات ولا أي صلوات في الكنيسة ليلاً .. ولما أكدت له تكرار سماعها للصلاة والقداس فينفس الميعاد قال لها :
” يا مبروكة، يا بختك .. دا يبقى السواح هم اللي بيصلوا وربنا أعطاكم بركة إنكم تسمعوهم..”.

وتحكي أمنا ايريني عن صفحات مشرقة من حياة أسرتها التقية وعلاقة والدتها القوية بالسيدة العذراء التي كانت تراها كثيراً. فقد حدث أثناء طفولتها أن وقع ماء مغلي على رجليها، وكان الحرق شديد وشكله صعب جداً وانتشرت فيه فقاعات الماء. ورغم استخدام مراهم كثيرة لم يحدث أي تحسن. وأخذت چنيڤياڤ تنادي على السيدة العذراء، فشعرت فوزية بنسمة هواء خفيف تمر عليها، وفي الحال شفيت رجلاها وزالت آثار الحرق. وعن شفاء والدتها تقول:

” تعرضت والدتي لآلام شديدة في معدتها، وكانت تعاني كثيراً منها ولم يتمكن الأطباء في جرجا من عمل أي شيء لها فسافرت إلى القاهرة وهناك أيضاً لم يستطيع الأطباء أن يجدوا علاجاً لحالتها وكانت وقتها أم لأربعة أطفال بين كل واحد والثاني سنة.. ولأن منزلنا كان بجوار كنيسة العذراء في جرجا، كان كثيرين من الذين يذهبون إلى الكنيسة يمرون تحت بيتنا. وفي صباح  أحد أيام الآحاد كانت والدتي متألمة جداً وكنت أقف بجوارها في البلكونة وكنا نري الناس في طريقهم من وإلى الكنيسة وصعبت عليها نفسها لعدم قدرتها على الذهاب إلى الكنيسة والتناول فأخذت تبكي بشدة.. وعندما رأيت دموعها، بكيت.. فطبطبت على كتفي.. فقلت لها:

“ياماما ما تبكيش الست العدرا هتشفيكي ..”.

في نفس الليلة ظهرت لها السيدة العذراء مريم وكانت تلبس فستان لون السما وبه نجوم لامعة وسألتها عن سبب بكائها فردت :

الشهيد مارجرجس” أولادي لسة صغيرين ياست ياعدرا ومش عارفة مين هيربيهم من بعدي؟ وهل هيتربوا تربية مسيحية في خوف ربنا ؟ بس لو ممكن يا ست يا عدرا أعيش لغاية ما بنتي الكبيرة تكبر وتاخد بالها من اخواتها ؟ .. فطمأنتها أم النور وقالت لها :
” تعالي معايا أنا هأوديك لدكتور شاطر قوي .. ”
فطلبت چنڤياڤ ان تستأذن من زوجها أولاً، فقالت لها أم النور :
” لما تقولي له أنا رحت مع أم ربي، هيقولك حاجة ؟ ”
قالت لها : ” لأ .. سلام الرب لك يا ست يا عدرا ” وخرجت معها من البيت وكانت هناك عربة في الخارج في انتظارهما. ركبتاها وسارت بيهما وسط مزارع وحدائق خضراء جميلة. ثم رأت والدتي مبنى كبيراً جداً، وعندما دخلت وجدت فيه بهو وحجرة بها سرير وطبيب .. ثم قالت أم النور :

“تعال يا چورچ (مارجرجس) اكشف عليها .. ”
فقال : “ياست ياعدرا إنتي عارفة إن قضيتها منتهية ؟ ”
قالت له : “هي تشفعت بيّ وأنا طلبت من ابني الحبيب، فقضيتها اتأجلت، فهل حنسيبها عيانة؟”

فرقدت أمي على السرير ثم قالت أم النور للشهيد مارجرجس : “حط إيدك على بطنها”.
فقال لها : ” إيدك الأول يا ست يا عدرا، فوضعت السيدة العذراء أم الإله يدها والشهيد وضع يده بعدها مكان الألم وضغطا قليلا قليلاً على المعدة ثم الصدر حتى خرج من فمها ما يشبه قطعة لحم سوداء كريهة الرائحة .. فوضعاها في قطنة في يدها وقالا لها : “خلاص ده كل المرض.” ثم أعادها إلى المنزل.

وفور عودتها أيقظتنا والدتي وحكت لنا عن ما حدث ورأينا القطنة وبها قطعة اللحم، وعلى الفور قادنا والدي في صلاة تمجيد كبير لأم النور والشهيد العظيم مارجرجس .. “

عاشت الأم چنيڤياڤ وأنجبت بعد ذلك أطفال آخرين ومنحها الله العمر كما طلبت منه حتى كبرت الابنة البكر فوزية والتحقت بالدير.
هكذا عاين الأبناء في والديهم مثلاً حياً لحب الصلاة والعلاقة الوثيقة مع القديسين. وبالإضافة إلى المعونات المالية التي كانت الأسرة تقدمها بسخاء إلى العائلات المستترة، كانت الأم كل يوم عند إعداد للطعام تضع في حسابها نصيب لهذه العائلات وتقسم الكمية المطبوخة حسب عداد أفراد كل أسرة. وكانت تنتظر عودة بناتها من المدرسة (مدرسة الراهبات الكاثوليك بجرجا) ليذهبوا أولاً لتوزيع الطعام على كل البيوت، وبعد أن يعدن تجلس الأم مع أسرتها لتناول الطعام في فرح وشكر لله …

وذات مرة قالت إحدى البنات للام : “ياماما ما إنتي بتبعتي ليهم فلوس .. خلاص كفاية ومفيش داعي للأكل والتعب ده كله .. ”
فأجابت الأم :
يابنتي بالفلوس هيشتروا احتياجاتهم الضرورية جداً، لكن مش هيطبخوا أي نوع من أنواع الأكل ده “.

وكانت تحرص دائماً على القيام بهذا العمل في الخفاء، فكانت ترسل بناتها إما في الساعة الثانية بعد الظهر أو في المساء حين يندر وجود مارة في شوارع جرجا وإذا تعللت إحداهن بالخوف من شدة الشمس أو من الظلام كانت تجيبها بأن من يفعل الخير يحميه الرب يسوع من أي خطر ..

وكانت چنيڤياڤ تحب الفقراء جداً وتكثر من عمل الرحمة والعطاء الذي جعل الخير لا ينضب أبداً من منزلها. كان للبيت بابان : واحد شرقي والآخر غربي. وكلما قرع أحد الفقراء أي من البابين، كانت الأم تعطيه خبزاً مع أي شيء آخر دون تفكير، وحدث في أحد أيام الآحاد أن زوجها لاحظ انها توزع الخبز من الصباح حتى آخر النهار فقال لها : “يالا هاتي خميرة واخبزي عيش تاني تلاقي العيش خلص” ولكنها أجابت في ثقة وايمان
” إحنا مش هنخبز إلا في ميعادنا كل أسبوع . “

الملاك ميخائيلوهنا تشير تماڤ إلى علاقة الأسرة القوية برئيس الملائكة ميخائيل، فقد كانت تضع أيقونته في حجرة الصلاة وتضيء باستمرار قنديل زيت أمامها، وتحرص على الاحتفال بتذكاره في اليوم الثاني عشر من كل شهر قبطي بعمل الفطير والخبز فكانت تضع طبق به بعض الخبز في حجرة الصلاة أمام أيقونة الملاك وفي صباح اليوم التالي ترى الأم أحد الأرغفة وقد ترك عليه الملاك ميخائيل علامة الصليب،
فتأخذ هذا الرغيف وتضعه وسط الدقيق ليكون بركة لمخازن البيت طوال العام. فكان الخبز دائماً يكفي احتياجاتهم واحتياجات كل العائلات التي يقومون بخدمتها.

 

 

أما عن عمل الرحمة في حياة الأب المبارك الخواجة يسى فيحكي أحد الأحباء – وهو من التجار الكبار في القاهرة ومعروف لدى الدير– عن فضل الخواجه عليه وسخائه الكبير معه، فهو الذي علّمه التجارة وك هّرب ومكث بجواره حتى وقف على قدميه وأصبح الآن صاحب تجارة واسعة؛ ويروي عن تعاملات الخواجة يسى المسيحية المملوءة بالتقوى مع جميع العاملين والمتعاملين معه، فيقول :

” كان الخواجه يسى ميسور الحال جداً وصاحب تجارة واسعة ويعمل في بضائع متنوعة وكنت أحد العاملين عنده .. وكان من عادته أن يخصص يوماً في الشهر، وهو الذي حقق فيه أكبر الإيرادات المالية، ويطلب من جميع العاملين –وكان عددهم كبير– المرور عليه في مكتبه قبل الانصراف. وكان يضع إيراد ذلك اليوم في درج المكتب وكلما يدخل أحد يفتح الدرج قليلاً ويقبض بيده ويعطيه مبلغاً كبركة علاوة على مرتبه الشهري دون عد أو حساب .. وكانت كل قبضة تختلف عن الأخرى لكن كل واحد منا كان يجد في هذه البركة كل احتياجاته .. يعني المحتاج زيادة لأن أولاده كتير يلاقي سد احتياجه واللي احتياجه قليل يجد ما يكفيه .. فالكل يكون في رضا وفرح شديد ببركة ربنا. “.

حرصت چينڤياڤ على أن تنمي في بناتها حب الخدمة فعلى سبيل المثال كانت هناك سيدة كسيحة تقيم بجوارهم مع أخيها وزوجته وفي حالة سفرهم كانوا يتركونها بمفردها في المنزل وكانت لا تقوى على الحركة فكانت الأم التقية چينڤياڤ ترسل بناتها إليها ليقمن بإطعامها وتنظيف مسكنها والقيام بكل ما يلزمها..

كذلك اهتمت چينڤياڤ بخدمة الملاجئ التي كانت فقيرة جداً في ذلك الوقت وإمكانياتها قليلة. كانت ترسل بناتها محملين بالأطعمة المختلفة وأصناف الحلوى إلى الأيتام وتوصيهن بتنظيف المكان وأخذ مقاسات الأطفال ليحيكن لهم الملابس، وكانت فوزية تقضي يومها في الصلاة معهم وقراءة الإنجيل.

إن معايشة كل هذه الاختبارات والعلاقات السمائية في مرحلة الطفولة كانت بمثابة القوت الذي هيأه الآب السماوي للقلب الصغير المتفتح على أعماق روحانية لا يعرف أغوارها إلا الذي أعطاها ولا يفهمها إلا القدير الذي وهبها إياها. لقد ارتشفت ونهلت من كنوز فضائل والديها وحفظتها لتسلك فيها كما يليق بابنة امينة تشتاق باستمرار أن تفرح قلب الله ووالديها.

تسجل لنا السيدة فايقة يسى الشقيقة الثانية لتماڤ ما عاينته بنفسها من قداسة وروحانية أمنا فتقول :

كانت أمنا منذ نعومة أظافرها طفلة بارة .. مطيعة .. محبة لله من كل قلبها وفكرها .. مواظبة على الصلاة والصوم والاعتراف والتناول من الأسرار المقدسة والذهاب لمدارس الأحد. وكانت شديدة التمسك بعقيدتها الأرثوذوكسية وغيورة على سلامة إيمان كنيستنا القبطية فأذكر مثلاً:

“كان في جرجا سيدة يعمل زوجها باش حكيم بمستشفى البلدة وكانت تتبع طائفة خلاص النفوس برغم أن كل عائلتها أرثوذوكسية وشقيقات والدها راهبات في أحد الأديرة الأرثوذوكسية بالقاهرة، وكانت تقوم بنشاط ديني في منزلها لتجذب به البسطاء إلى فكرها الخاطئ ولم تكتفي بذلك بل استطاعت أن تعقد اجتماعات أسبوعية في كنيسة الشهيد مارجرجس بموافقة الأب الكاهن مقابل ما تدفعه من مال، وللأسف انقاد وراء فكرها الكثير من الشعب الأرثوذوكسي الذي كان متعطشاً لسماع كلمة الله ..

وذات يوم دُعيت فوزية لحضور هذه الاجتماعات التي أبدى الكثيرون إعجابهم الشديد بها.. وبالفعل حضرت الاجتماع وفي نهايته سمعت هذه السيدة تقول : “اللي خلص يرفع إيده”
فتضايقت أمنا الحبيبة وبدأت تُصادق البنات الحاضرات وتأخذهن إلى منزل الأسرة لتحدثهن عن الإيمان الصحيح وتحذرهن من قبول ما تنادي به هذه السيدة فكانت تكلمهن عن عملية الفداء وأهمية التوبة المستمرة والاعتراف، كما كانت تحكي لهن سيرة القديس أبو مقار الذي كان الشيطان يحاربه لآخر لحظة في حياته ويقول له:

” لقد خلصت يا مقار” فكان يجيبه وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة : “لسه لم أخلص بعد” حتى وصل إلى العزة الإلهية فقال له :
“الآن فقط بنعمة ربنا يسوع المسيح قد خلصت ..”

وبنعمة ربنا وقوة إيمانها الراسخ جذبت كثيرين، فلاحظت السيدة تناقص عدد الحاضرين في الاجتماع وعلمت أن فوزية هي السبب وراء ذلك وأنها ترغب في ان تسلك في حياة الرهبنة. تعجبت واستهانت بصغر سنها وفي الاجتماع التالي كانت ثائرة وهاجمت الشهيد مارجرجس وقالت أنه شخص عادي جداً وأنكرت وجود ما يسمى بالقديسين أو الشهداء، كما تهكمت بطريقة لا تليق على الراهبات وبدأت توجه الشتائم لهن. فقامت فوزية وأخذت ترد عليها كلمة.. كلمة.. على كل الاتهامات التي تتعلق بأمير الشهداء وحياة الرهبنة الملائكية. أصيبت السيدة بحالة من التشنج وفقدت وعيها، فقالت فوزية للحاضرين :

“بصوا دي فيها روح شيطان .. حد يمشي وراء الشيطان؟ وكان حاضراً في ذلك الاجتماع أمين خدمة مدارس الأحد، فأعجب بدفاعها عن الكنيسة والشهيد العظيم مارجرجس وزارها في منزل أسرتها وشجعها .. أما كاهن الكنيسة فقد عاتبها على تصرفها، فقالت له في جرأة الغيرة على الإيمان القويم وسلامة العقيدة:

« يا أبونا الشهيد هيزعل لو الست دي دخلت الكنيسة تاني “. ثم توجهت لأبونا حنا سلامة وهو كاهن غيور وهو صاحب كتاب اللألي النفيسة في تاريخ الكنيسة وتكلمت معه، فطمأنها ووعدها بأنه سيتصرف في هذا الأمر .. وفي نفس اليوم، في الساعة الثانية بعد منتصف الليل، نوّرت الكنيسة كلها بصورة عجيبة وكل من كان يقيم بجوارها سمع صوت دربكة، فدخل الناس إلي الكنيسة ليستطلعوا الأمر ورأوا الشهيد البطل مارجرجس بيلف فيها، وكان يقول :

” الست دي ما تدخلش الكنيسة تاني “ ومن هذا يوم أصبح أبونا حنا سلامة يكن لفوزية محبة خاصة وكان يهديها كتب الروحية لتقرأها، وأذكر منها على سبيل المثال كتاب ميامر القديس يعقوب السروجي .. كما كان كلما أقام قداسات خاصة يدعوها للحضور”.

ومنذ ذلك الوقت بدأ أبونا جرجس كاهن كنيسة الملاك ميخائيل يتردد على منزلنا وبدأ يعارض فوزية في فكرة الرهبنة لدرجة أنه قال لها ذات مرة : “محرومة إذا دخلتي الدير” فظلت تبكي بشدة ولما علم أبونا حنا سلامة بالموضوع دعاها لحضور قداس خاص وطمأنها بأن ربنا هيتصرف وبعدها تقابلت مع أبونا جرجس وفوجئت بأنه عدل عن معارضته لها وقام بقراءة التحليل لها..

 

وتستطرد السيدة فايقة يسي حديثها عن شقيقتها :

” كانت نعمة الله تلازم أمنا الحبيبة منذ ميلادها وكان من الطبيعي أن يهتم الله بالذي أفرزه ودعاه من بطن أمه، فقد أحاطها بكل عناية ليس فقط وسط أسرتها بل حفظها أيضاً في بوتقة إيمانية روحية لتظل له ذخيرة طوال العمر ..

كانت شقيقتنا تمضي فترة صوم السيدة العذراء مريم في صوم انقطاعي حتى المساء، وأخيراً تأكل القليل من الخبز والملح ولا تذوق أي نوع من أنواع الفاكهة، وقد حاولت والدتي ذات يوم إعطاءها ثمرة فاكهة لتأكلها فرفضت تماماً وتعللت بأنها تشتم فيها رائحة كريهة .. وهكذا كانت تقضي فترات الصوم في نسك شديد .. كما كانت تمضي هي وصديقاتها معظم الوقت في كنيسة السيدة العذراء في جرجا ليس فقط في أيام الآحاد والجمعة عندما تقام القداسات بل أيضاً أغلب أيام الصوم حيث تسكب نفسها في صلوات حارة وتسابيح، ثم بعد ذلك يقمن سوياً بتنظيف الكنيسة، وفي نهاية اليوم يتناولن طعاماً بسيطاً ..

كانت تلتزم بتنظيف الكنيسة بانتظام وذلك لأن في أول مرة قامت فيها بهذا العمل مع صديقاتها نلن تعزية سمائية عظيمة. كان ذلك في يوم الحادي والعشرين من الشهر القبطي، وهو تذكار السيدة العذراء، وكانت فوزية هي صاحبة الفكرة فلقد رأت أن كاهن الكنيسة متقدم في السن وليس هناك من يهتم بتنظيف الكنيسة مما جعل التراب يتراكم بصورة كبيرة ساعدت على انتشار العنكبوت، فقضين كل ذلك اليوم في تنظيفها وبذلن مجهوداً كبيراً حتى أصبحت في صورة لائقة. وقبل مغادرتهن الكنيسة، ظهرت لهن السيدة العذراء وهي تبتسم وتقول: ” أنا متشكرة .. أنا فرحانة بيكم لأنكم نظفتم بيت إلهي وابني واللي متسمي على اسمي” ثم باركتهن واختفت.

ومنذ ذلك اليوم اعتادت فوزية تنظيف الكنيسة كل يوم سبت وكانت تشعر بفرح شديد وتعزية وكانت تصطحبنا معها – كأخواتها الصغار – لنقضي معها اليوم في الترنيم والتنظيف، وأذكر أنها كانت توزع العمل علينا وكنا نلاحظ حسن إدارتها وتدبيرها للأمور .. وكانت هذه من الوزنات التي سلمها اليها الله. كذلك منحها الله وهي مازالت في سن صغير القدرة على تعزية الحزاني أكثر ممن هم أكبر منها سناً .. فمثلاً أتذكر جارة لنا فقدت ابنها ولم يستطيع أحد تعزيتها فكانت فوزية تتردد عليها دائماً وتقرأ لها في الكتاب المقدس وتتحدث معها حتى تهدأ، ثم تعود إلى المنزل وهي تمجد وتبارك عمل الله .. واتسمت فوزية أيضاً بالشفافية الروحية، ففي ذات يوم قالت لنا :”يللا نخلص الشغل ده بسرعة لأن جارتنا هتبعت حفيدتها علشان عايزاني اروح لها.. ”
وبعد نصف ساعة فقط، دق جرس الباب ووجدنا امامنا حفيدة جارتنا وتقول : “تعالى علشان چدتي عايزاكي.” فاندهشنا وقلنا لها ازاى عرفتي، فمن اتضاعها أجابت: “الشيطان عطاني الإحساس ده علشان أتغر في نفسي وأسقط وبكده يكون ضربني ضربة يمينية”.

 

وعن علاقة الأسرة بأمير الشهداء، تذكر تماڤ ايريني اختباراً يعكس الدالة القوية التي تتمتع بها والدتها عنده :
“كان لدى والدتي كردان (عقد ذهبي ثقيل) وكانت لا تلبسه إلا في المناسبات وبعد انتهائها تخلعه على الفور وتضعه في العلبة الخاصة به. وذات مرة لانشغالها بأحد إخواتي، وضعته مؤقتاً في كيس المخدة إلى حين إرجاعه إلى مكانه. ثم جاءت السيدة التي كانت تقوم بأعمال التنظيف ووضعت المخدات في البلكونة، فسقط العقد –دون أن تدري– في الشارع وأثناء ذلك كان هناك عمال يقومون بأعمال بناء في بيت مجاور لنا. لاحظت والدتي ما حدث وبحثت عنه ولكنها لم تجده، فتأكدت أنه سقط وأن أحد العمال قد أخذه ولكنها ظلت تنادي على الشهيد مارجرجس حتى يعيده.

عند عودة والدي من العمل، لاحظ علامات الضيق عليها رغم محاولتها إخفاء مشاعرها.. ولما علم بضياع الكردان، طيّب خاطرها حتى لا تحزن عليه، ولكنها أخبرته في ثقة بأنها طلبت من الشهيد مارجرجس أن يرجعه .. فقال : “هو مارجرجس فاضي للحاجات دي ؟! .. تلاقي اللي أخده محتاج له” وفي الحال فاحت رائحة بخور وشاهدا الشهيد وهو يلقي بالكردان في وسطهما”.

 

الانب ابرامتلامست الأسرة أيضاً مع بركة القديس الأنبا أبرآم فتقول تماڤ ايريني : ” إن له مكانة كبيرة في عائلتنا وكان عندنا صورة كبيرة له ولم يكن قد تم تعليقها بعد على الحائط وكانت موضوعة على ترابيزة. وكثيراً ما كان يتردد على زيارة والدتي بعض السيدات من الكنيسة والجيران وكانت تحرص أثناء وجودهن على تجنب خطية النميمة وترفض ما يسمى بمسك سيرة الآخرين.. وكانت بلدتنا محدودة والعائلات كلها تعرف بعضها. وفي إحدى هذه الزيارات بدأت سيدة –وشاركتها أخريات– في الحديث عن إحدى العائلات.

كانت والدتي رقيقة المشاعر وتحرص على عدم جرح شعور الآخرين فحاولت تغيير موضوع الحديث أكثر من مرة بطريقة غير مباشرة ولكنها لم تنجح في ذلك وكان يرجع الحديث مرة أخرى إلى نفس الموضوع .. فنظرت إلى صورة القديس الأنبا أبرآم واستنجدت به في داخلها،

وفي الحال سمع صوت ثلاث دقات على الترابيزة الموضوع عليها الصورة .. فنظرن يميناً ويساراً فلم يبصرن أحد. عاودن الحديث فتكرر ما حدث، ولكن هذه المرة وجدن الصورة تتجسم ويد القديس تخرج منها وتدق بقوة على الترابيزة ليحذرهن مما كُنّ يتحدثن فيه، فأصابهن الذهول وتسألن عما يعني هذا .. فأجابت والدتي: “خليني صريحة معاكم .. إحنا بنمسك سيرة الناس وما يصحش إننا نتكلم على حد .. إحنا المفروض نصلي لكل الناس”.

 

 هذه العشرة والدالة القوية مع القديسين وعمل الرحمة كانت متأصلة في كثير من أفراد هذه العائلة المباركة، فتسجل تماڤ الكثير عن جدها التقى الخواجة متى الفيزي ومحبته للكنيسة وحياة الصلاة، فتقول :

” كان جدي يجمع الأسرة كل ليلة ليصلي صلوات الغروب والنوم ثم يقرأ إصحاحاً من الإنجيل ويتأمل فيه ويحكي لنا حكاية أو أكثر وبعد ذلك نذهب إلى النوم.. ولكونه رئيس شمامسة، كان يقضي فترة الصوم الكبير في الكنيسة، ويظل واقفاً على العكاز وهو يصلي حتى وهو في سن السبعين .. وكان من عادته أن يستريح على دكة في فناء الكنيسة، وكثيراً ما كان يأتي إليه طفل صغير يلبس في أحد أذنيه حلق ويجذبه من طرف ردائه ويقول له :

الشهيد كيرياكوس وامه يوليطة“قوم يا چدو صلي .. قوم صلي يا چدو ..”.
ظل هذا الطفل لمدة عامين منتظماً في حث جدي على القيام للصلاة، وذات يوم كان جدي تعبان جداً وجاء الطفل يوقظه بنفس الطريقة .. فقال جدي : ” أنا لازم أمسك الولد ده وأعرف هو ابن مين .. ” فجرى وراء الطفل الذي دخل الكنيسة، فدخل وراءه .. ولكن الطفل أسرع ودخل الهيكل، فانتظره جدي في صحن الكنيسة ولكنه لم يخرج فخرج جدي وجلس على الدكة التي كان يجلس وينام عليها ولكن الولد لم يظهر ثانية.. وأثناء ذلك مر عليه الكاهن الذي كان في طريقه للدخول إلى الكنيسة لعمل العشية ولاحظ عليه الضيق وعندما سأل جدي عن السبب حكى له عن الطفل الذي يوقظه دائماً فقال له الكاهن أن هذا الطفل هو الشهيد كرياكوس الشهير “بأبو حلقة”.
جلس جدي يبكي وهو يقول : “سامحني يا شهيد الرب” وصام وصلى ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع ظهر له الشهيد كرياكوس وقال :
” قوم صلي يا چدو.. “ فقال له : ” سامحني يا شهيد الرب، أنا جريت وراك .. سامحني “. أجابه الشهيد : ” أنا مسامحك يا چدو..” وظل يظهر له يومياً حتى يوم انتقاله وكان له علاقة ودالة قوية معه فكان يطلب منه الصلاة من أجل من يعرفهم من المرضى أمام العزة الإلهية.
وكان يجيب عليه في اليوم التالي بأن هذا المريض سيشفى أو ذلك سيسافر إلى السماء، ثم يطيب خاطره ويؤكد له إنها إرادة ربنا..”.

 

أما عن فضيلة عمل الرحمة في حياة الخواجه متى فقد عاينتها تماڤ التي كانت ترافقه دائماً :

الحنطور” أتذكر طفولتي جيداً وهي مطبوعة في ذهني.. كان جدي تاجراً للأخشاب ولديه معامل لتفريخ الكتاكيت فكنت –وأنا صغيرة جداً– أذهب مع اخوتي إليه في المكتب، وعند نهاية اليوم كان ينادي على عم موسى السواق ليعود بنا إلى المنزل، ولكنني كنت ألتصق به وأصرعلى البقاء معه، وهكذا كنت أرافقه حيثما يذهب حتى نعود للمنزل. كان يشترط عليّ ألا أخبر أحداً بما يفعله، وبالفعل كنت أعده بذلك ..

فكان يقول لي : ” وها تقولي إيه لچدتك لما تسألك كنتي فين ؟
فقلت له : ” هأقول لها مش عارفة .. ”
فقال : ” لأ .. كده يبقى كدبتي ”
فكنت أسأله : ” طيب أقول إيه يا چدو ؟
فكان يقول لي : ” قولي لها اسألي چدو ”
كنت أركب معه العربة الحنطور التي كان يملأها بالأنواع المختلفة من الخضراوات والفواكه بالإضافة إلى أظرف مالية .. وكان يمر على كل بيت بنفسه وكنت أنزل معه أقرع الباب، وبمجرد سماع صوت حركة السقاطة وقبل أن يفتح الباب كان يضع ما يحمله أمام الباب ويختفي في الحال دون أن يراه أحد .. وهكذا كان يوزع بنفسه هذه العطايا على كل بيت محتاج، ثم نعود إلى المنزل .. وعندما كانت جدتي تسأله عن سبب التأخير كان يجيب : ” كان عندي شغل لازم أخلصه .. “.

 

نمت تماڤ في محبة الله وحياة الفضيلة وتذوقت منذ طفولتها حلاوة الحياة السمائية، فكانت لا تجد شبعاً لحياتها إلا في الصلاة والتسبيح وقراءة الكتاب المقدس والكتب الروحية وممارسة الفضائل. كما كانت لا تميل إلى الاشتراك في اللعب مثل باقي أخواتها، ولكنها كانت شديدة الارتباط بوالدتها ولها صداقة عميقة مع خالتها مفيدة .. تسجل لنا تماڤ كيف كان فكر الرهبنة يسيطر عليها ويشغل تفكيرها منذ طفولتها، فتقول :

“كان عندي مقصورة فيها ثلاث صور متدشنة لربنا يسوع المسيح والست العدرا والشهيد مارجرجس وكنت بأنور قنديل الزيت وأحط ورد قدامهم كل يوم .. كنت مشتاقة جداً لحياة الرهبنة ولكنني لم أكن أعرف طريق لأديرة الراهبات الأرثوذوكس، فتوجهت إلى راهبات مدرستي الأجانب الكاثوليك وطلبت منهن الالتحاق بالحياة الرهبانية عندهن على شرط أن أتناول وأعترف في كنيستي الأرثوذكسية. بعد ذلك تحدثت فوزية مع أهلها فشرحوا لها الفرق بين العقيدتين واختارت فوزية أن تتمسك بعقيدتها الأرثوذوكسية.
فقال لي والدي : ” نبني لك قلاية على السطوح .. “.
ولكنني كنت اشتاق إلى ممارسة حياة الرهبنة في دير، وكان يشاركني في هذا الاشتياق خالتي مفيدة وكنا ندلعها ديدة .. كانت تكبر عني قليلاً في السن وكنا نلعب سوياً دور راهبات في السطوح من كثرة حبنا وتفكيرنا المستمر في الحياة الملائكية، واتفقنا أن الأكبر فينا ستذهب إلى الدير أولاً، ثم تذهب الأخرى بعدها..

كانت خالتي جميلة جداً، فضغطت عليها العيلة لتتزوج وبالفعل أجبروها على الخطوبة، ولكن قبل الإكليل راحت تبكي قدام صورة الست العذراء وتقول :
” هايجوزوني يا أم النور وأنا عايزة أترهبن “. فظهرت لها العذراء وتجسمت من الصورة، وقالت لها : ” قولي لوالدتك إن ماكنتوش هاتسيبوني أروح الدير، العذراء هتاخدني عروسة لرب المجد يسوع المسيح” لم تصدق أمها هذا الكلام وتصورت أنها عايزة تهرب من الجواز.. وبينما كانت خالتي ديدة تقوم بعمل كحك وبسكويت حفل الزفاف مع الست الخبازة شعرت بصداع شديد وغادرت المكان وأثناء نزولها على السلم ماتت في الحال. عندما عَرفت خبر انتقالها وكنت مازلت في عمر صغير، تعبت جداً وبكيت بمرارة وحرقة..


الشهيدة دميانةفرأيت في رؤيا عذارى كثيرات منيرات في ثياب بيضاء ومعهن صلبان ألماظ وتيجان على رؤوسهن ومنهن خالتي مفيدة، ففرحت بها جداً وقالت لي :
“كده برضه تعيطي عليا، ده أنا مبسوطة في الفردوس ومكاني جميل جداً وأجمل حاجة فيه رب المجد يسوع المسيح .. ربنا سمح لك تشوفينا علشان تتعزي وتفرحي وتبطلي عياط وماتزعليش انتي هتترهبني وهتبقي رئيسة دير وهيكون ليكي بنات كتير والدير والرهبنة هيبقوا حلوين في عهدك وبعدها هاتيجي معانا.. “.
سألتها : “ومين اللي معاكي دول ؟”
قالت : ” كل دول عذارى كان نفسهم يترهبنوا، وماقدروش فعاشوا بطهارة وجاهدوا في العالم وربنا حسبهم كأنهم اترهبنوا بالضبط.. أنا لازم أمشي دلوقتي علشان فيه احتفال للشهيدة دميانة والأربعين عذراء وهنروح نعيّد معاهم”.
قلت لها : ” طيب أنا عايزة آجي معاكي .. “.
قالت لي : “استأذني من ماما الأول ” فروحت سألت ماما، فقالت لي : هو انتي شوفتي ديدة فين؟
فقلت لها علي المكان اللي شفتها فيه ولكن عندما ذهبنا إليه لم تكن ديدة موجودة.
فقلت لها : ياماما ديدة مشيت علشان تروح احتفال الشهيدة دميانة “.
وفي اليوم التالي، حكيت للعائلة ما رأيته، فتعجبوا واتضح أن ذلك اليوم يوافق فعلاً تذكار عيد القديسة دميانة .. ظللت أصلي وأقول للشهيدة : ” لا أريد أن أكلف والدي، فصلي من أجل أن يرسل لي ربنا كنزاً أبني به ديراً وأجمع فيه كل البنات الراغبات في حياة الرهبنة “.

 

كنت في كل صلواتي أطلب من ربنا أن يرسل لي هذا الكنز وأن يدبر لي أمري، وذات ليلة بينما كنت أصلي بدموع رأيت شاباً جميلاً ومضيئاً وقال لي :الشهيد ابوسيفين
” انتي بتعيطي ليه ؟
.. انتي ليكي إيه في البيت ده غير الصورتين دول ؟! .. ياللا على ديري ..”
سألته : ” انت مين ؟ ”
قال : ” أنا شهيد واسمي أبو سيفين “.
ووضع الصور في حضني واختفى ..

في الحقيقة أنا نشأت وتربيت في الكنيسة ومدارس الأحد، لكن عمري ما سمعت ولا قرأت عنه، فذهبت في اليوم التالي لأبونا بطرس كاهن كنيسة العذراء وحكيت له عما رأيت وسألته عن وجود شهيد اسمه أبوسيفين، ففتح لي السنكسار وقرأت سيرته واستشهاده تحت يوم ٢٥ هاتور .. فتعجبت لأني كنت أول مرة أسمع عنه!!

بينما كنت اصلي في اليوم التالي وأطلب معونة الله وكنت بأقول للشهيد : ” عرّفني أعمل إيه وأروح إزاي ؟” فجأة وجدته أمامي وكرر ما قاله في الليلة السابقة ..

فأخبرت أبونا بتكرر الرؤيا وإني خايفة من ضربة يمينية، ولكنه قال لي : “اصبري هيعمل معاكي حاجة ” وفعلاً في الليلة الثالثة رأيت الشهيد أمامي باللبس الرسمي (زي الضابط) وهو يقول لي : ” أنا عايزك لديري في مصر”.
قلت له باندهاش : ” دير في مصر ! ”
قال : ” أيوه .. أنا هأخدك وأفرجك على الدير، أثناء استضافة بعض الراهبات لأقاربهم، وهتشوفك راهبة أو أكثر ويسألوكي انتي قريبة مين ؟ ماترديش بكلمة ..ابتسمي بس .. “.
قلت له : ” ارشم الصليب” لأني خايفة من ضربة يمينية، فرشم الصليب .. وأنا كنت دائماً أصلي وفي ايدي الصليب ولاقيته بيقول لي : ” ياللا متخافيش”.
ولقيت نفسي فوق الحصان، وفي ثواني كنت في الدور الثاني في الدير .. وبالفعل قابلتني راهبتين، فقالوا لي :” إنت ياحلوة قريبة مين من الأمهات ؟ فابتسمت وصمت كوصية الشهيد الذي لم تره الراهبات، ثم قال لي : ” شوفتي ديري
فقلت له : ” أيوه بس آجي ازاي؟ ”
فقال لي : ” إلهي هيدبرها لك “.
وبعد أن زورت الدير كله ومستشفى هرمل والسكة الحديد، رجعني بسرعة إلى البيت في جرجا.

 

وتشاء معونة ربنا إن تحضر أمنا ماريا من دير الشهيد أبوسيفين لزيارة شقيقها في بلد اسمها الشيخ علام، وهي قرية تقع شرق النيل، واحنا في جرجا غرب النيل، وكانت تحضر قداسات صوم يونان في كنيسة الملاك عندنا. تعرفت عليها واحدة من صديقاتي وجاءت تقول لي : “مش لقيت لك راهبة من دير أبو سيفين!” فقلت لها: “نفسي أشوفها “.


وبالفعل تقابلت معها وأخذتها لقضاء فترة الصوم في منزل أسرتي، وكنت أمضي معها وقتاً طويلاً منفردين في حجرتي وقلتلها على رغبتي في الرهبنة وطلبت منها أن تصلي من أجلي. وفي فصح يونان جلس معنا والدي وسمع منها عن الدير ونظام الحياة فيه فحزن جداً وازداد قلق عليا ورفض ذهابي إلى هذا الدير رفضاً تاماً ..

بعد ذلك اضطرت أمنا ماريا إلى دخول المستشفى لإجراء عملية، فكنت أزورها .. ووعدتني بأنها ستكلم أمنا كيريا واصف (١٩٠٣– ١٩٦٢م ) رئيسة الدير عني وتطلب منها أن تراسلني على منزل إحدى صديقاتي.

عادت أمنا ماريا إلى ديرها في مصر القديمة وحكت للأم الريسة عني، فبدأت تراسلني في البداية على العنوان المتفق عليه، ولكن حدث ذات يوم أن وصلني خطاباً على منزلنا واستلمه والدي وكان مكتوب فيه : ” اركبي القطر وانزلي في محطة الجيزة وهانتظرك “. وبعد أن قرأه والدي، نظر لي وابتسم وقال : ”كده تزعلي بابا وماما! .. الناس تقول علينا إيه ؟! .. إحنا نصبر ونصوم ونصلي ونشوف ربنا هيعمل إيه .. وأنا هأوديك بإيدي .. وهاسيبك تروحي الدير، بس بطريقة حلوة مش بالهروب.. “.


“لما رأى والدي ووالدتي إصراري على الرهبنة، قررا اللجوء إلى الصلاة والصوم لمدة خمسة عشر يوماً وكان ذلك قبل صوم الميلاد. أقيمت قداسات يومية كانت تخرج الساعة الثالثة بعد الظهر.. ولم تستطيع والدتي حضور آخر قداس، فمكثت تصلي في حجرتها مع عمل المطانيات من أجل أن يرشدها الله بما فيه الخير لي.. وشافت الرؤيا التالية :


“أضاءت الحجرة بنور شديد وشافت ملايكة بتبني، فسألتهم بتعملوا إيه ؟ فقالوا: “بنعمل الأساس علشان الملكة أم الملك جاية”. وحالاً بنوا أساس وجابوا كرسيالسيدة العذراء فخم جداً مرصع بالذهب والجواهر، وجاءت العدرا وحواليها ملايكة بيزفوها وقعدت على العرش .. فسجدت لها والدتي وكان للعدرا مهابة كبيرة جداً، فقالت لها أمي :”السلام لك ياأم النور”

قالت لها : “سلام ابني ليكي، انتي ناسية الكلام اللي قلته ليكي ساعة ولادة بنتك البكر .. دي بتاعتنا وأنا خطبتها لابني .. فماتخافيش عليها وسيبيها تترهبن وهيّ في حِماه وإلا هناخدها دلوقتي”.

قالت لها: “خلاص يا ست عدار تترهبن وأنا هأقنعهم “.
وبمجرد وصول والدي من الكنيسة، أخبرته والدتي بالرؤية الخاصة بالست العدرا وكلامها ..

فقال لها : “طيب نبني لها قلاية على السطوح لكن ما تروحش دير” لأن للأسف الفكرة التي كانت سائدة في ذلك الوقت إن من يذهب إلى الأديرة هم اللذين لم يكن لهم فرصة زواج أواللذين لديهم عاهات.

كنت أعترف عند راهب قديس اسمه أبونا متياس فجاء لزيارتنا في ذلك الوقت، وأخذ يقنع والدي بعدم جدوى فكرة الرهبنة في البيت وأقنعه بأن يتركني اذهب إلى الدير. ومن حكمة هذا الأب قال له : “سيبها وهي هترجع لك بنفسها بعد أسبوع واحد لأن بنتك مرفهة جداً وهتتعب من معاملة الدير ومش هتحتمل .. وهتبعت تقولك خدني “. المهم اقتنع والدي بكلامه ووافق على هذا الأساس لأنه كان يعلم مدى صعوبة الحياة في الأديرة في ذلك الوقت”.

داومت فوزية على الصلاة وطلب معونة القديسين اللذين كانت تشغف بقراءة سيرهم والجلوس عند أقدامهم لتقتات بأقوالهم، وكانوا يسرعون إلى معونتها، وقد روت لنا بنفسها كيف تعرفت على القديس يوحنا صاحب الإنجيل الذهبي الذي ساعدها علي المجيء إلى الدير.

القديس يوخنا ذهبي الفم” ذات ليلة كنت أقرأ في سيرة القديس يوحنا صاحب الإنجيل الذهبي في يوم تذكار نياحته وشعرت بوجود أمور دخيلة على سيرته، فظهر لي وفي أحدى يديه صليب وفي الأخرى الإنجيل الذهبي وعرّفني بنفسه، ومنذ ذلك اليوم بدأت أطلب منه أن يُسهل لي طريق الرهبنة فظهر لي وقال :

 ” خلاص أنا كنت عند ماما وبابا وهما خلاص هديوا .. “.
قمت مسرعة وتوجهت إلى حجرتهما فوجدتهما يقابلاني بابتسامة ويقولان لي :
” خلاص احنا وافقنا على ذهابك للدير .. “.


فقلت : ” أنا عارفة مين اللي هداكم ” فأكدا رؤيتهما للقديس يوحنا صاحب الإنجيل الذهبي.

ومن ترتيب ربنا كانت أمنا ماريا في زيارة لجرجا، وحضرت لزيارتنا واتفقنا على سفري معها إلى الدير، ولكن في ليلة السفر سمع عمي توفيق بالخبر، فهاج جداً وجاء إلينا مسرعاً وقال لوالدي :
“ازاى تسيب بنتك تعمل كده .. لأ .. مش ممكن تروح الدير، أنا هأمنعها وهأقعد لها على الباب”. وفعلاً جلس على كرسي بجوار الباب علشان يمنعني ولكن في ميعاد نزولي من البيت، نزل عليه سبات عجيب ونام ولم يتحرك من مكانه. فخرجت أنا وأمنا ماريا بسلام من المنزل ولحق والدي بنا في محطة القطار واشترى لنا بنفسه تذاكر السفر .. وعندما استيقظ عمي خرج مسرعاً ليلحق بي ليمنعني من السفر، لكن القطار كان قد غادر المحطة.

 

وهكذا انطلقت فوزية في ١٦ أبريل من عام ١٩٥٣ م  (الموافق ٨ برمودة ١٦٦٩) في طريقها إلى الحياة الملائكية، وظلت تنشد وتسبح وتمجد الله الذي حقق لها غايتها المنشودة. وما أن وضعت قدميها على أولى درجات السلم السماوي حتى ظهر حبها الملتهب لله واستطاعت بجهادها وسهرها الروحي أن تبلغ درجة عالية من الكمال.. ولكن هل سيقف عدو الخير صامتاً أمام هذا القلب المنطلق بحب شديد وصادق نحو السماء ؟!

كيف سلكت هذه النفس الصغيرة السن في حياتها الديرية كراهبة في المجمع وخدمة الآخرين؟.. وكيف كانت صلواتها وتسابيحها وعباداتها في حياتها الخاصة في القلاية؟ .. كيف توطدت علاقتها بالقديسين عامة وبالشهيد أبو سيفين الذي صارت راهبة في ديره؟  وماذا عن محبتها للخدمة والبذل مع التزامها بجهادها الروحي؟ هذا ما سنكتب عنه في الصفحات القادمة. قدم الأب يسي والأم چنيڤياڤ ابنتهما باكورة ثمارهما المقدسة الزهرة الجميلة والجوهرة النفيسة الى الدير لتحمل الصورة الملائكية وتصير عروساً للمسيح..

وصلت فوزية مع أمنا ماريا إلى القاهرة وتوجهت أولاً إلى البطريركية وتعجب الجميع هناك ان يقع عليها الاختيار للرهبنة في دير الشهيد العظيم أبو سيفين لأنه كان دير فقير جداً وغير منظم. نصحوها بالالتحاق بدير السيدة العذراء بحارة زويلة لكنها أصرت على تلبية نداء السماء ودعوة الشهيد لها.

لقد أحبت فوزية حياة العفة والطهارة “واضعة أمام عينيها رئيس الإيمان ومكمله الرب يسوع ومقتدية بأمه البتول، أم جميع العذارى القديسة مريم التي كانت لها الشفيعة والأم السمائية التي تسندها في كل جهادها وتقويها في آلامها وتعزيها في شدائدها .. لقد صارت السماء عالمها المحبوب الذي تعيش فيه وهي مازالت تجاهد على الأرض.

لقد بلغت فوزية وهي في بيت والديها درجة روحية عالية بعشرتها القوية مع فاديها وتقديم نفسها يومياً ذبيحة طاهرة في صلوات كثيرة وأصوام طويلة، مما جعل هذه النبتة الصغيرة–التي تأصلت جذورها في ينابيع مياه الحياة– تزدهر سريعاً في الدير وتبلغ أعماقاً روحية لا يصل إليها إلا القليلون بعد جهادات طويلة .. لقد استطاعت بمعونة الله القادر على كل شيء أن تعد نفسها للسلوك بجدية في الطريق الملوكي، فأعطاها الرب الإله القوة لكي لا ترتعد ولا ترهب من مكائد العدو الذي توعدها وأعلن حربه عليها منذ اللحظة الأولى لدخولها الدير.

تروي لنا تماڤ ايريني ما تعرضت له من متاعب وحروب شتى مثل التي تعرض لها كبار الآباء والأمهات القديسين الأوائل، لتؤكد لنا من اختباراتها الروحية فاعلية قوة الصلاة ومدى ضعف الشيطان الذي يتبخر أمام علامة الصليب المحيي، وتعلمنا كيف ننتصر على مكائده بطلب معونة الله لأن فادينا لا يمكن أن يخزي طالبيه. “لما دخلت الدير قعدت فترة بدون قلاية وبدون اكل أو شرب، ولم اهتم بطلب شيء لأننا كنا في أسبوع البصخة وقلت أجاهد في الصوم، إلا أن أمنا تواكليا وهي إحدى الراهبات الكبار وكانت تحب عمل الرحمة تحننت عليا وأخذتني إلى قلايتها وقدمت لي طعام ولشدة البرد قدمت لي ايضاً مشروب ساخن وبعد ذلك استضافتني أمنا مرتا “.

في ذلك الوقت كان والدي يبعث لي برسائل دائماً ويلح عليا بالرجوع ويعدني بأنه سيجهز لي قلاية في المنزل، ولكنني كنت أرفض.. وبعد فترة أعطوني قلاية في الدور الثاني كانت مهجورة لمدة طويلة وغير مهيأة للإقامة فقمت بتنظيفها ووضعوا لي فيها كنبة للنوم، وعند المساء كانت مظلمة جداً لعدم وجود شمعة أو لمبة جاز .. قضيت وقتاً طويلاً أصلي وأشكر الله لأنه جعلني مستحقة أن يكون لي قلاية أستقر فيها، ولما انتهيت من الصلاة نمت على الكنبة ولعدم وجود غطاء استعنت بالبالطو الذي كنت البسه أثناء السفر .. في الحقيقة كنت فرحانة جداً. لم تكد الساعات الأولى من الليل تمضي حتى رأيت فجأة أمامي شخص طويل القامة أسود اللون .. رجلاه على الأرض ورأسه تصل إلى السقف .. له قرون وعيناه حمراء لون الدم، وفي يديه سكينة .. وسمعته يتوعدني ويقول في حدة :

“وكمان جيتي وبقى ليكي قلاية !! .. طيب أنا وراك والزمن طويل”

وراح ضرب بالسكينة على الأرض. ومن هول المنظر اتنطرت من فوق الكنبة وكنت أقول :

” انجديني يا قوة الله .. احفظيني يا قوة الله .. “

كنت في حالة من الرعب الشديد. في ذلك الوقت سمعت أمنا تواكليا صوت ارتطامي بالأرض لأنها كانت تسكن في القلاية المجاورة، فخبطت على بابي ولكنني لم أستطيع أن أقوم وأفتح لها فقامت بفتح الباب بسكينة ووجدتني مطروحة على الأرض وجسمي عبارة عن كتلة من الثلج. أخذتني في حضنها حتى شعرت بالدفء ثم اصطحبتني إلى أمنا الرئيسة، الأم كيريا واصف ورويت لها ما حدث، فصلت لي ودهنتني بالزيت المصلي. ومن كثرة خوفي قلت لها :

” أنام عندك يا أمي.. ”
أجابت : لأ، متخافيش الشيطان ده زي القش تنفخي فيه بعلامة الصليب يمشي في الحال، وهو بيعمل كده علشان يخوفك .. ارجعي قلايتك وماتخافيش وبالفعل رجعت إلى القلاية، ولكنني لم أستطيع أن انام وفضلت ماسكة الصليب في ايدي طول الليل.
وأحياناً أخرى كنت أرى عند قيامي للصلاة وعمل المطانيات تعابين وعقارب أمامي .. وعندما رأيت هذا أول مرة تعجبت في نفسي وقلت : ” القلاية نظيفة، جات منين التعابين ؟ “

أصابني خوف شديد وغادرت القلاية على الفور، فوجدت إحدى الراهبات أمامي فقلت لها: ” الحقيني يا أمنا عندي تعبان في القلاية “.
وفي الحال فهمت الموقف وقالت : “لو شفتي تعابين أو عقارب ما تخافيش، ده الشيطان .. ارشمي عليه الصليب وكلهم هيختفوا “.

وفي اليوم التالي رأيت ثعباناً غليظاً وقد تلامست جبهتي مع جسمه عند سجودي في المطانيات. كان هذا المنظر يتكرر بأشكال مختلفة ولكن أب اعتراف الدير، القمص مقار المقاري، كان يطمئني ويشجعني ويقول لي: “حطي رأسك عليهم متخافيش” فكنت أؤكد له أنها عقارب وتعابين حقيقية .. فكان يكرر لي قوله : “متخافيش حطي رأسك عليهم” ولكي لا أترك قانوني الروحي، أطعت كلامه. وعندما كانت رأسي تتلامس فعلاً مع أجسامهم وأنا بأعمل مطانية وفي ايدي الصليب، كانوا يختفون .. لأن الصلاة هي أكثر سلاح يخيف الشياطين .. وبالصبر والمثابرة يخزى الشيطان وننتصر عليه.

وفي مرة أخرى كنت ماسكة في ايدي لمبة جاز –لأن الدير لم يكن به كهرباء في ذلك الوقت– وكان الظلام يسود المكان تماماً، وفوجئت بحد بينفخ في اللمبة وتنطفئ ووجدت نفسي محاطة بأشكال ذات ألوان متعددة : أحمر وأخضر وأصفر وأسود، وسمعت صراخاً من كل جانب وأحسست بمن يخبط فيا .. فكنت أقول :
” انجديني يا قوة الله.. احفظيني يا قوة الله.. ”
وفي الحال شعرت بقوة حملتني من وسطهم ووضعتني في القلاية، فكنت أقول له :
” خلاص أنا عرفت حركاتك .. وازاي تغلبك قوة إلهي “.

 

وتحكي مثالاً آخر لحرب عدو الخير، فتقول :

“يوم نزلت لوحدي بدري للمطبخ ومليت الوابور وأشعلته، وكانت صفيحة الجاز جنبه؛ وعند محاولتي تقوية النار، فوجئت بأنها هبت وارتفعت جداً وفي لمح البصر مسكت في صفيحة الجاز .. كنت في أحد أركان المطبخ، وعلشان أخرج لازم أعدي في النار المشتعلة اللي ارتفعت في لحظات وكانت على وشك أن تمسك في سقف المطبخ الخشبي، فصرخت بإيمان :
” انجدني يا إله أبو سيفين .. الحقني يا شهيد الرب وحافظ على ديرك .. “

وفي الحال رأيت الشهيد أمامي يرشم الصليب على النار التي انطفأت في نفس اللحظة، فرحت بنجاة الدير من الحريق ومجدت الله وشكرت الشهيد .. وعندما رويت لأمنا الريسة ماحدث، قالت لي :
” الحزين (الشيطان) مش عارف يحاربك إزاي “.

كانت كل هذه الحروب ظاهرية ولكن عدو الخير اتخذ بعد ذلك أسلوباً آخر، فوضع في فكري أن كثرة الأشغال المطلوبة مني تجعلني خارج القلاية طوال اليوم، وبالتالي لا تتيح لي الوقت الكافي للصلاة وإتمام قانوني الروحي من مطانيات وقراءات روحية كما اعتدت وأنا في منزل والديّ، ورأيت أنه من الأفضل العودة إلى منزل الأسرة، وكان الفكر يتردد في داخلي : ” أنا جاية علشان أصلي مش علشان أخدم بس .. أنا هأرجع بيت والدي وأعيش كراهبة هناك .. “.

لجأت إلى الصلاة وطلبت إرشاد ربنا، فرأيت في ليلة الشهيد أبو سيفين وهو يقول لي: ” إنتي في البيت هتعملي إيه بعد انتقال والديك ؟ الراهب إذا خرج من ديره يموت.. زي السمكة إذا خرجت من الميه .. خليكي وهتنبسطي وهتتعزي حتى في وسط الشغل الكتير. بس رددي المزامير على طول وإنتي رايحة وجاية ولو في آية من الإنجيل بتعزيكي، احفظيها. ” شكرت ربنا على محبته وعنايته.. ومن ساعتها، احرص في كل ثانية أكون فاضية فيها، أصلي أي مزمور على قدر الوقت وباستمرار تكون الأجبية في جيبي .. وفعلاً منذ ذلك اليوم وأنا أشعر دائماً انني في الفردوس مهما كثر العمل “.

واصلت ابنة المسيح السلوك في الطريق الملوكي الذي أحبته بكل جدية وتدقيق وأمانة، فلم تعد ترهب حروب عدو الخير بل كانت تواجهها في يقظة وشجاعة حاملة سيف الروح الذي هو كلمة الله ومتسلحة بدرع الإيمان والمحبة ورجاء الخلاص فعاشت وسط الأمهات الراهبات وأخواتها طالبات الرهبنة بالمحبة والاتضاع، وخدمت الكل واضعة أمامها الوصية الإنجيلية التي توصى بمحبة الجميع، فكانت مثالاً لحياة الطاعة وإنكار الذات ..

” هأحكي لكم يا بناتي عن بعض خبراتي اللي مريت بيها في الأيام الأولى من دخولي الدير ..

مرة كنت في قلايتي وقالت لي إحدى الراهبات الكبار : ” يا بنت يا جديدة تعالي اكنسي الحضير “.
فقلت : “حاضر يا أمي” ويدوبك مسكت المقشة وكنست جزء صغير بدأت تقول : ” أنتي يا بنت يا جديدة ما تكنسيش “.
قلت : “حاضر ياأمي”. ودخلت قلايتي .. ولم تمر سوى دقائق حتى قرعت الأم الراهبة باب قلايتي بشدة وسمعتها تقول لي :
“يا بنت ياجديدة تعالي اكنسي الحضير ..” قلت: ” حاضر .. ” وخرجت وبدأت أكنس إلا أنها رجعت مرة ثاني وطلبت مني ماكنسش الحضير .. فتركت المقشة ودخلت القلاية .. تكرر الموقف عدة مرات .. في كل مرة تقول ايوه ثم لا .. وأقول لها حاضر، وفي الآخر قالت لي :
” أنتي متربية من بيت أبوك والدير مش هايكون له فضل عليك “.

وفاح عبير فضائلها من خضوع وطاعة وبذل بين الراهبات وهنا أعلنت الأم الريسة تزكيتها للرهبنة. وفي ٢٦ أكتوبر ١٩٥٣م تمت سيامة فوزية راهبة باسم إيريني على دير الشهيد العظيم أبو سيفين للراهبات بمصر القديمة على يد الأب الورع القمص مقار المقاري، وقد تمت سيامتها في كنيسة الشهيد أبو سيفين الأثرية الموجودة بجوار الدير لعدم وجود كنيسة داخل الدير وقتها..

وتصف لنا أمنا ايريني مشاعرها في ذلك اليوم المهيب وتقول :
” في اليوم السابق للرهبنة قمنا بتنظيف الدير كله، ثم قضينا الليل في الكنيسة ما بين صلواتنا الخاصة والتسبحة. كان أب الاعتراف حاضراً معنا في تلك الليلة حتى تُتاح لنا الفرصة للاعتراف إذا ما تذكرنا أي شيء، بمعنى أن الإنسان يعترف بكل خطية وفكر، ثم يقرأ لنا التحليل .. وكانت الأمهات وأب الاعتراف يقولون لمن تأخذ الشكل الرهباني :
” إنتي النهاردة اتولدتي ولادة جديدة، خلي بالك .. ليه ؟ لأن الواحدة فينا بتقدم توبة وتعترف بكل خطاياها فتكون كأنها مولودة من جديد .. “. وزمان في وقت السيامة كنا نسجد على وجوهنا ويغطونا بسجادة كبيرة، فقمت من تحتها وكنت غرقانة في بركة من الماء من كثرة دموعي أثناء صلاة التجنيز، لأني كنت بأتكلم مع ربنا وأقول له :
” يا رب أنا مااستهالش أكون عروساً لك، أنت دفعت دمك مهر غالي وأنا ماعملتش حاجة من أجلك، إنت اللي تشيلني وتسندني .. قويني وموتني عن كل شيء في الدنيا، خليني لك وحدك.

” كنت فرحانة جداً، لكن في نفس الوقت بأطلب بدموع من ربنا إنه يقويني علشان أسلك في الطريق بما يرضيه .. كان يوماً جميلاً جداً لا أنساه. واختارت لي أمنا الريسة اسم إيريني لمحبتها الشديدة لراهبة تقية كانت تحمل نفس هذا الاسم وكانت قد تنيحت قبل التحاقي بالدير. وقد روت لي عنها أنها كانت راهبة “عمالة” تشتغل طول النهار وتصلي طول الليل يعني وقتها ثمين جداً .. كانت تصلي بانسحاق وقد أعطاها الله في أواخر أيامها موهبة شفاء المرضى، ولكنها كانت تهرب من مقابلة الناس ولا توافق على ذلك إلا من أجل الطاعة عندما تضغط عليها أمنا الريسة. ولم تخرج من الدير طول أيام حياتها حتى ولو إلى الطبيب. وكانت تمر ليلاً على قلالي الراهبات : الكبار والصغار، الراهبة والمبتدئة، المريضة والسليمة .. تملأ لهن الماء من البئر متممة الوصية المقدسة : “كنت عطشانا فسيقتموني” كانت دائماً تطلب من ربنا إن أراد أن يعطيها صليب المرض وأن لا يسمح أن تلازم الفراش وأن تتمكن من خدمة نفسها إلى آخر يوم في حياتها حتى لا تثقل على أحد.. وقد استجاب الله لها. كما أعلمها بموعد نياحتها قبل انتقالها بثلاثة أيام. وفي اليوم المحدد ذهبت إلى الكنيسة وتناولت من الأسرار المقدسة، ثم عادت إلى قلايتها حيث انطلقت روحها بسلام .. “.

 

بعد حفل السيامة واصلت أمنا ايريني جهادها في اتضاع وبذل ومحبة، فكانت تقوم بخدمة الأمهات وخاصة المرضى منهن والمسنات، ثم عهد إليها القيام بخدمة الأم الريسة إلى جانب ما تقوم به من أعمال ديرية.


وقد روت أمنا ايريني عن ما كانت تقوم به يوميا في الدير وعن ملازمة الملاك الحارس لها، فقالت :

“كنت يومياً أعمل من الساعة الرابعة صباحاً إلى العاشرة أو الحادية عشر مساءً، يعني كنت أبقى خارج القلاية طوال هذا الوقت وأمضي النهار كله ما بين خدمة المرضى وأمنا الريسة، ومن الطبيعي أن أكون في غاية الإرهاق عند رجوعي للقلاية في ذلك الوقت المتأخر .. فكنت عند النوم أفكر :

” ازاي هاقوم واصلي ؟ وهل الوقت هيكفيني ؟ .. أقول لك يا ربي يسوع المسيح بارك لي في الساعة اللي هأنامها كأنها ساعات، واجعل الأربع أو الخمس ساعات كأنهم ٨ ساعات ” كنت أقول يا رب أنا خايفة ما أصحاش لأن كل راهبة بتصحى باجتهادها، لأن مكانش فيه في الدير منبهات ولا جرس للتسبحة .. كنت أسمع صوت بيناديني ثلاث مرات : ” إيريني .. إيريني .. إيريني .. قومي صلي .. “.

ولما أبدأ أصحى وأفتح عينيا أشوف ملاك واقف فوق رأسي وبعد كده يلف ويقف أمامي عند نهاية السرير، ولما أقوم وأقعد، يختفي.. فكنت أصلي بفرح ولا أشعر بالتعب .. ظل الملاك يوقظني كل ليلة في نفس الميعاد وبنفس الطريقة، وكنت أشكره وأقول له : “كتر خيرك” وفي مرة قلت له : ” أنت مين ” ؟
قال : ” أنا ملاكك الحارس اللي ملازمك على طول “.

اختبرت بحق بركة التعب والعمل في بيت ربنا وبركة حياة الشكر في الخدمة، وأحكي لكم حكاية توضح إن الواحد لما يعمل بفرح وشكر وبدون تذمر، تكون تعزية ربنا له عظيمة وبيعطيه أكثر مما يطلب. لكوني أصغر راهبة، كان عليا كل شغل الدير .. وكان من عادة الأمهات قديماً القيام بالكثير من الأعمال في يوم الأحد، فطلبت مني الأم المسئولة القيام بالعمل في المطبخ، فاستأذنتها في حضور القداس أولاً .. فقالت : ” الآباء القديسين قالوا الشغل زي الصلاة “.
قلت : ” أنا هأعود نفسي على هذا الوضع .. “

وبالفعل كنت بأشتغل بفرح من كل قلبي .. وفي مرة وعدوني بحضور القداس الأول في اليوم التالي على أن أعود بسرعة للقيام بالعمل المطلوب مني، ففرحت جداً لأنه عدى عليا فترة طويلة بدون حضور قداس أو تناول. كنت في شدة الاشتياق، ولكن في وقت متأخر من الليل أخبروني بعدم إمكانية ذهابي إلى الكنيسة غداً لأنه مطلوب مني شغل كذا .. وكذا. وافقت دون أن أتضايق وقلت : “حاضر دا أنا هاخد بركة زي القداس “. وشكرت ربنا.. في هذه الليلة أثناء الصلاة لقيت واحد بيقول لي :

” تعالي صلي مع السواح وهأرجعك قبل ميعاد شغلك .. “.

سألته : ” أروح ازاي ؟ ..
قال لي : ” امسكي في جلابيتي .. ” ولما مسكتها ارتفعت .. ولقيت نفسي في كنيسة عليها صليب في الصحراء وكان لها باب على شكل قبو منخفض والداخل إليها لابد أن ينحني .. كنيسة بسيطة لكنها واسعة جداً وفخمة وفيها روحانية عالية .. حضرت القداس واتناولت مع السواح وبعد انتهاء القداس عطوني قربانة.. فسألتهم : “احنا فين ؟” فقالوا لي أننا في كنيسة بيصلي فيها السواح في جبل الأنبا أنطونيوس .. بعد كده لقيت نفسي في القلاية وفي ايدي القربانة وقلبي كان مليان تعزية لا توصف وفرح روحي ظل داخلي لمدة طويلة.. وفور وصولي للدير ذهبت إلى أمنا الريسة ومعي القربانة وقدمتها لها وكانت لسه ساخنة فقالت لكي: « مين عطاها ليكي » فقلت لها: « السواح » وحكيت لها على اللي حصل وقامت بتوزيع القربانة كبركة على الأمهات”.

وهكذا حرصت أمنا ايريني على السلوك في حياة الطاعة الكاملة لكلام أمها الرئيسة، وقد روت لنا اختبار آخر يؤكد قيمة هذه الفضيلة في حياة الراهب وامام الله :

” ذات مرة سمحت أمنا الرئيسة لكل الراهبات أن يحضروا عشية عيد الشهيد العظيم أبو سيفين في كنيسته الأثرية خارج الدير، أما أنا فسمحت لي بحضور الصلاة في كنيسة السيدة العذراء الدمشيرية مع راهبة اخرى .. وفي ليلة العيد روحت لحضور العشية، ومن المعروف أن الكنيستان متجاورتان، ففكرت في داخلي أن أدخل سريعاً كنيسة أبو سيفين وأولع شمعة قدام أيقونته وأخرج على طول لحضور الصلاة في كنيسة العذراء، لكنني سمعت صوتاً في داخلي يقول : ” أبو سيفين يزعل منك “

كنت أريد الالتزام بكلام أمي فطلبت من الشهيد أن يعرفني ما هو التصرف السليم .. فوجدت أني كل ما أمشي ناحية كنيسة أبوسيفين رجلي تتسمر في الأرض وإن مشيت ناحية كنيسة العذراء تنفك فعرفت في الحال إرادة ربنا .. وقلت له :” يا رب سامحني، أنا فعلاً هأطيع طاعة عمياء “ وبعد رجوعي من الكنيسة، أخبرت أمي بما حدث، فقالت :
ربنا وأبو سيفين بيقولوا لك الطاعة أحسن من تقديم القرابين والطاعة حلوة .”

فرحت جداً وأخذت درساً تعلمت منه أن الطاعة هي جوهرة الراهب. ومنذ ذلك اليوم كنت أنفذ كل ما تقوله أمي بالحرف الواحد، شرق يبقى شرق .. غرب يبقى غرب .. ولما أطيع يبقى قلبي في سلام وضميري مرتاح “.

 

لم يكف عدو الخير عن حربه مع أمنا ايريني، وظل يناصبها العداء ويثير عليها حملة تلو الأخرى، فتحكي لنا لون جديد من حروبه:
” في يوم من الأيام بعد الرهبنة هيّج عدو الخير وكيلة الدير عليا ولم يكتفي بذلك، بل أثار أيضاً أمنا الريسة وده حصل لما سألت عني وعرفت أني روحت القلاية علشان استريح شوية فاستدعتني وقالت :
” أمشي دلوقتي وارجعي بيت أبوكي”

توسلت إليها تسيبني أقضي الليل في الدير وأمشي بكره بعد القداس، لكن بدون فايدة .. كانت مصرة على رجوعي إلى بيت والديّ في نفس اليوم رغم الوقت المتأخر، وكانت تقول : ” إنتي ماعندكيش طاعة .. طاعتك مزيفة “. وتكلمت معي بشدة .. وأخيراً وافقت بعد بكاء وتوسل كثير على أن أقضي هذه الليلة في الدير.

قعدت أبكي طول الليل وأقول : “يارب لو ماكنتش اترهبنت كان ممكن أرجع، لكن إزاي أرجع بعد الرهبنة ؟! .. فرأيت الشهيدالعظيم أبو سيفين وقال لي :

“ما تزعليش، أنا كلمت أمك ودي حرب ما تمشيش.. “

حضرت القداس في اليوم التالي ورجعت لأمنا الريسة وقلت لها : “سامحيني يا أمي وخلاص أشوف وشك بخير .. وصلي لي”. فاحتضنتني وقبلتني وقالت لي : “إنتي بنتي وحبيبتي وأبو سيفين جالي الليلة دي وهددني بسببك. ” ومن وقتها أصبح لي محبة خاصة في قلبها وخليتني تلميذتها وكنت أقوم بخدمتها والقراءة لها في بستان الرهبان وسير القديسين..

عندما حضر والدي لزيارتي، رحبت به الأم الريسة ورفضت رجوعي معه، وكانت تشجعني باستمرار على احتمال أي متاعب يثيرها عدو الخير عليا، وكانت تقول لي :

“مش إنتي عايزة تستشهدي ودي شهوة قلبك، لو احتملتي الإهانة والتحقير والتعب، ده زي الاستشهاد”.

استمرت أمنا ايريني في التدريب على ممارسة الفضائل وكانت تحرص على محاسبة نفسها في نهاية كل يوم عند رجوعها إلى القلاية وهي ساكبة نفسها أمام الله في ركن الصلاة حيث تستمد قوتها وعزاءها. وقد سردت لنا اختباراً عاشته يبين مدى أهمية اليقظة الروحية والجدية في فحص النفس لتحثنا على الاحتمال والانسحاق ومحبة بعضنا البعض حتى نصل إلى أسمى الدرجات في الحياة الملائكية :

“في يوم وأنا في الكنيسة استرعى انتباهي حديث بين بعض الراهبات عن الشغل اليدوي طول القداس، فاستغربت .. وعند رجوعي إلى قلايتي، رأيت موقفاً آخر بين راهبتين فتعجبت من سلوكهما في داخلي فقط ولم تخرج من فمي كلمة تدينهما، فلم أعتقد أن استغرابي هذا يعتبر إدانة وبالتالي نسيت ماحدث .. في مساء نفس اليوم وأنا قائمة في ركن الصلاة وأحاسب نفسي كالمعتاد قبل النوم، قلت لنفسي: ” انتي فيكي ضعفات كثيرة مش ظاهرة ومن المحتمل أن يكون في الآخرين ضعفات ظاهرة لكن قليلة .. ” ثم بدأت أصلي وأطلب معونة الله، وفجأة وجدت نفسي في مبنى كبير له باب حديد واقف عليه شخص .. فتح الباب ودخلني، فرأيت أن المكان مقبض وكئيب جداً .. كانت الظلمة تسوده ورائحته صعبة وجدرانه من الحجر وحجراته تشبه الخنادق، ثم رأيت راهبات واقفات، كل راهبة في خندق تبكي، فقلت لهن:
” إنتم ليه هنا في المكان الصعب ده، أنا مش قادرة أحتمل رائحته الكريهة ؟ “

فقالوا لي : لأننا كنا بندين أمنا الريسة واخواتنا ونتدخل في سياسة الدير .. ” ثم سألوني : “وإنتي إيه اللي جابك هنا ؟ فقلت : ” أنا النهاردة وقعت في خطية الإدانة “. حاولت أخرج من هذا المكان بسرعة وأخذت أبحث عن مخرج، فوجدت سلماً يؤدي إلى الباب الذي دخلت منه، وهناك رأيت شخصاً يلبس ثياباً بيضاء، ففكرت في داخلي في إعطائه أي شيء ليخرجني من ذلك المكان، لكنه قال: ” أنا حارس المكان ومش باخد فلوس، وإنت شفتي إنه صعب إزاي” فقلت له : “طيب أنا عايزة أخرج من هنا علشان مش قادرة أحتمل خالص” فقال : ” كل اللي هنا كانوا بيدينوا ومش هيخرجوا، لكن إنتي ليكي إذن إنك تدخلي وتشوفي وتخرجي .. فخلي بالك “.


قلت : “خلاص أنا توبت مش هأدين تاني وعاوزة أخرج “.


فأخرجني ووراني طريق ضيق جداً وماقدرش امشي فيه إلا بالجنب وعلشان امشي لارم يتعرض وجهي أو ظهري للاحتكاك بجدرانه الحجرية؛ وورانيي طريق ثاني واسع جداً بتمشي فيه عربيات وناس وبه أنوار باهرة .. ثم قال لي :“في نهاية هذا الطريق الضيق هتلاقي ديرك، أما في الواسع هتضلي “.


قلت : ” لأ .. أمشي في الطريق الضيق، وبدل ماأمشي بوشي ويتسلخ أمشي بظهري” وفعلاً كان ظهري بيحتك جامد بالحيط ومشيت طويلاً حتى وجدت البوابة الكبيرة اللي توصلني بالثلاث كنائس المحيطة بالدير وكان دخول الدير زمان من الباب الشرقي، فدخلت إلى قلايتي وسجدت وأنا بأقول :
” أخطيت يا رب سامحني، وأشكرك إنك لم تتركني في ذلك المكان الصعب .. من فضلك أعطيني توبة وساعدني حتى لا أدين أحداً ولا أنتقد أحداً .. ” ثم تنبهت ووجدت نفسي ساجدة في ركن الصلاة والأرض تحتي غرقانة دموع وشعرت بأن رائحة المكان الكريهة مازالت في أنفي ..
وقضيت الليلة في الصلاة وتقديم توبة في انسحاق ودموع .. وكنت أطلب من الله أن يساعدني لأبدأ بداية جديدة وابتعد تماماً عن إدانة الآخرين..

في اليوم التالي، شعرت بألم شديد في ظهري وكتفي كلما حاولت الانحناء، وعندما رأت أمنا مرتا منظر ظهري، أخبرتني بأنه متسلخ وملابسي كلها دم .. فوضعت لي مركركروم ومكثت لمدة ثلاثة أيام أعاني من ارتفاع في درجة حرارتي التي وصلت إلى ٤٠ درجة من شدة الجروح، وكنت منهكة القوى من المنظر والرائحة والمجهود الذي بذلته.

لاحظت بقية الراهبات في الدير إنني في حالة شديدة من الإعياء وكانوا بيسألوا ايه اللي فيا، فكنت أقول لهم خطيتي هي اللي عملت فيا كده. وفضلت على الحال ده لغاية ماجه أب اعتراف الدير وكان بيجي مرة كل أسبوع .. ولما حكيت له على اللي حصل، قال : ” اشكري ربنا اللي أعطاكي درس من البداية علشان ما تدينيش حد ولا يكون لك أي دخل لا بالدير ولا بالراهبات ولا بأي حد .. “.


التزمت فعلاً بنصيحته وكنت أحرص على وضع قطن في أذني علشان ماسمعش أي حديث يدور بين أمنا الريسة وأي راهبة .. كنت في حالي : من قلايتي لشغلي ومن شغلي لقلايتي وعزمت عزماً قاطعاً إن الدنيا تتشال وتتهبد كأني مش في الدير.. كأني في وادي تاني خالص.. يعني ماليش دخل نهائي باللي بيحصل حوليا .. حتى أمنا كيريا اسكندر ربنا ينيح نفسها اللي بعد كده بقيت رئيسة دير مارجرجس للراهبات بمصر القديمة سنة ١٩٦١ كانت بتحبني جداً وأنا كنت بأحبها، ولكن لما كانت تقول لي : ” تعالي يا أمنا إيريني ما عرفتيش .. ” أقول لها :”ما عرفتش ومن فضلك مش عايزة أعرف ..”
فكانت تفهم قصدي وماتزعلش مني. وإذا طلبت مني واحدة توصيل أي خبر لأمنا الريسة، كنت أنقله بطريقة لطيفة.. وإذا دخل عندها أحد ليقول لها أي خبر أو شكوى كنت أخد القلة وأجري وأعمل نفسي رايحة أملاها أو أروح لغسل المواعين علشان ماسمعش حاجة وأهرب من الإدانة.

وفي يونيه ١٩٥٦ بعد مرور ثلاث سنوات على دخولي الدير، وصلني خبر نياحة والدتي ولم تكن قد زارتني طوال هذه الفترة وكان والدي يحضر بمفرده لزيارة الدير لأنه كان يتردد على القاهرة بحكم ظروف تجارته وعمله .. وعندما سمعت بوفاتها تذكرت كلامها لي قبل ذهابي للدير لما قالت لي:
مش تستني دا أنا فاضل لي ثلاث سنين وهأسافر على السما .. “

فقلت لها : “ربنا يخليكي لعيالك وأنا لما أروح الدير في حياتك أحسن.”

وهنا أمرتني أمنا الريسة بالذهاب لتعزية الأسرة، فسافرت أنا وأمنا كيريا اسكندر في قطار تحرك من القاهرة في الساعة الرابعة بعد الظهر، وقبل وصوله إلى محطة أسيوط علمنا بوجود قطار مقلوب تسبب في توقف قطارنا ونزول جميع الركاب منه، وكان الجميع يتسابقون للنزول ليلحقوا بقطار آخر على مسافة بعيدة نسبياً .. كان الظلام حالك ولم يكن معنا كبريت أو بطارية، فكنا نصلي ونطلب معونة ربنا .. انتظرنا حتى يقل الزحام لكي نتمكن من النزول خاصة أن القطار كان قد توقف بعيد عن الرصيف وعلينا أن نقفز من سلالم القطار العالية عن الارض، وفؤجنا بتواجد ضابط أمامنا تسود ملامحه الهدوء والروحانية والسلام والورع العجيب، وقال لنا : ” يا أمهات ما تخافوش ربنا معاكم .. “
قلنا له : “ربنا معانا ومعاك .. “

 

الشهيد ابوسيفينفقال لي : ” اديني إيدك علشان تنزلي السلم ” فرفضت وقدمت له الشكر وقفزت .. ثم قال لأمنا كيريا :
” اديني إيدك .. ” فقالت : ” لأ .. متشكرة ..”، ومسكت في إيدي وقفزت.

ومن العجيب إننا لاحظنا نوراً ينبعث من هذا الضابط كأن كشاف منور خط السكة الحديد لمسافات طويلة .. وكنت أنا وأمنا كيريا نسرع للحاق بالقطار الثاني، فقال لنا :“ماتخافوش القطر مش هيقوم غير لما انتوا تركبوا فيه “.

وصلنا للقطار وكانت عرباته مزدحمة جداً ووجدنا عساكر قاعدين فقاموا لأداء التحية للضابط، فقال لهم :”برده احنا نقعد ونسيب الراهبات واقفين” فقالوا له : ” حاضر ياأفندم.. ” فقال لهم : «دول راهبات تعبانين » فجلسنا وقدمنا له الشكر وطلبنا منه أن نتشرف بمعرفة اسمه ودعيناه لزيارة الدير علشان ياخد بركة الشهيد، فابتسم وقال : ” أنا أبو سيفين” واختفى .. وتعجب جميع الموجودين سواء من الناس أو العساكر..
فقالت لي أمنا كيريا :
الله يسامحك ياإيريني ماخليتهوش يمسك إيدي ليه، كنت أخذت بركته”

وبدأ جميع الركاب يسألوا عن سيرة أبو سيفين، وفضلنا طول الطريق نحكي لهم سيرة الشهيد. شعرنا إننا لما نطلب ربنا يسوع المسيح من كل قلوبنا في ضيقاتنا ومشاكلنا الروحية والجسدية والنفسية يستجيب ويرسل لنا الشهداء والقديسين أحباءه ولا يتركنا، بل يعطينا سلاماً .. قوة واحتمال وأجر كبير في السماء.. لأنه محب للبشر ورحوم وحنين على الخطاة.. يحب يجذبهم ويشدهم من أجل خلاص نفوسهم.. هو وحده اللي بيشفق ويعطف علينا .. وليس لنا آخر سواه ولا شيء يفرحنا ولا يريحنا غير محبة ربنا..

لما وصلنا بيت والدي، كل الناس بيقولوا لي : ” إنتي السبب في وفاة والدتك”
فكنت أقول : “يعني يا رب أنا السبب في إن إخوتي بقوا يتامى ”


فضلت أصلي وأبكي بشدة، فظهر لي شخص في هيئة نورانية له هيئة القديسين وأخذ يردد آيات من الكتاب المقدس (لا تحزنوا كالباقين الذين لا رجاء لهم ..) وبالرغم من ذلك، لم أشعر براحة أو سلام .. وعندما سألته هو مين، قال لي : أنا أنطونيوس الكبير .. فقلت له : ” فين علامة مسيحك وفين علامة الصليب الذي تحمله؟ ” ورشمت عليه الصليب فتحول في الحال إلى دخان وعرفت انه الشيطان.

مكثت أمنا ايريني في منزل أسرتها لمدة عام وكانت والدتها تظهر لها يومياً وترشدها إلى كيفية التصرف في أي مشكلة تقابلها. ومن خلال ما حكته أمنا عما عاينته في هذه الفترة يتضح أن السماء قريبة جداً مننا، وتتأكد حقيقة إيماننا الأقدس عن الملكوت الذي أعده الله للذين يحبونه ومكافأة القديسين للذين عاشوا بالكمال في حياة مرضية أمام القدير .. لذلك هم يشعرون بنا لأنهم أكثر قرباً. فتقول أمنا ايريني أن إحدى أخواتها لم تتعزى وكانت تبكي بكاءً مر بعد انتقال والدتهم، فأتت إليها وسقتها ماء مصلي وبعد ماشربته قامت من النوم فرحانة متهللة وبطلت تبكي ..

كما تحكي أيضاً عن شقيقة أخرى كانت مريضة، فرأت والدتها ساهرة بجوارها طول الليل تغطيها وتصلي لها. وفي مرة أخرى كان الجو قارصاً، ووقع غطاء السرير عن إخوتها الصغار وعندما وضعته الأم چنيڤياڤ عليهم، استيقظ أحدهم وقال : ” كنت بردان وحلمت إن ماما جت وغطتني”. كما سمح الله بتعزية كبيرة لأمنا برؤية مكان والدتها العظيم في السماء، فتقول :

“في يوم أخذني ملاك للسما وشفت ما لم تره عين كقول معلمنا بولس الرسول.. لا أستطيع أن أصف ما شاهدته لأنه في الحقيقة أكتر بكثير من قدرتي على وصفه .. شفت والدتي ومعها واحدة وكانت بتقول لها دي بنتي الراهبة اللي قلت ليكي عليها .. ومشيت معها في الفردوس وشفت خضرة جميلة .. شفت شبه أنهار وزهور جميلة جداً، ونور بديع يملأ القلب فرح سماوي لا ينطق به .. سألت والدتي إذا كانوا بيشوفوا الرب في الفردوس، فقالت ربنا معانا وبنشوفه .. وبنتمتع به .. وهو مالي كل مكان .. “.

وبعد أن اطمأنت أمنا ايريني على أحوال الأسرة واستقرت أمورهم عادت إلى الدير بسلام.

 

واصلت السماء، منذ الأيام الأولى لالتحاق أمنا بالحياة الديرية، ارسال اشارات واضحة تبارك وتعضد هذه النفس الأمينة والمؤتمنة على خزائن النعمة الإلهية لتقود نفوساً كثيرة في درب الحياة الملائكية الساعية وراء شخص المخلص.. وكان روح الله نفسه يقودها في الأعماق من مجد إلى مجد لمواصلة هذه المسيرة الإلهية المباركة ..

لقد سلكت أمنا إيريني في حياتها الرهبانية بكل جدية وأمانة وكانت تكشف كل أفكارها لأب اعترافها وأمها الريسة وكانت تطيع ارشاداتهم وتلتزم بكل التداريب الروحية. كما تغذت بقراءة الكتب المقدسة وسير الآباء التي كانت لها المنهل العذب الذي ترتوي منه دائماً. وكان الرب الإله يعطيها نعمة خاصة واستيعاباً عجيباً لفهم أعماق ما تقرأه وتحفظه في قلبها وتعيشه .. فكان لها تقدم روحي ملموس بين جميع الراهبات جعلها أهلاً لحمل شعلة القيادة..

 

وقد حكت لنا أمنا عن اختباراتها ورسائل السماء لها التي كانت تعلن بشتى الطرق أنها ستكون حاملة لهذا المشعل المقدس الذي سبق وأعدها الرب له ومنها على سبيل المثال : نبوة أمنا إفروسينا الحبشية.

كانت أمنا افروسينا – احدى الأمهات الكبار في ذلك الوقت – عبدة حبشية الأصل تعمل عند والد الدكتور منير نعمة الله وكان جميع أفراد أسرته يعاملونها كواحدة منهم. وعندما التحقت بالحياة الرهبانية كانت تقوم بكل الأعمال الشاقة في الدير ولا تشفق على نفسها .. كانت دائماً تقول : ” أنا كنت باشتغل للناس، ما اشتغلش في بيت ربنا !! .. دا أنا أخدمكم كلكم. “

كانت تبذل مجهوداً جباراً ومهما تقدمت في السن تصر على قيامها بالعمل وتطلب من الله أن يعطيها القوة .. كانت تعمل طول النهار وتصلي طول الليل واتسمت حياتها بالنسك الشديد، فكانت لا تأكل لحوم أو خضروات أو أي فاكهة، بل كان طعامها قاصراً على الحلاوة الطحينية والعسل الأسود سواء في أيام الصيام أو الفطار.

وتقول عنها أمنا : “كانت قلايتها قدام قلايتي وكان عدو الخير يحاربها، فكنت أرى القلة الفخار ترتفع من على الشباك – منغير ما حد يشيلها – وتترمي على وشها، وأسمعها بتصرخ وتقول: “انجديني يا قوة الله .. الحقني يا حبيبي يا أبو سيفين ..” كانت تبكي .. وتصارع .. وبعد قليل من الوقت اشوف نور قوي جداً في قلايتها وأسمعها بتقول : “هربتم يا ملاعين، هربتكم قوة الله.” ثم ترنم بصوت مسموع : “سبحوه مجدوه زيدوه علواً إلى الأبد رحمته ” وكانت بتصلي طول الليل وكنت بأفرح لما اسمع صوت تسبيحها .. وتاني يوم كنا بنشوف إصابات واضحة في وشها.

عند دخولي الدير، وأنا لسه باللبس العلماني، طلبت أمنا الريسة من أمنا كيريا اسكندر أن تأخذني لأخذ بركة هذه الأم القديسة. خبطنا على باب قلايتها وفتحت ودخلت أمنا كيريا اسكندر، أما أنا فكنت واقفة على العتبة في الخارج وأمنا افروسينا مكانتش شايفاني، وسمعتها بتنادي عليا وبتقول : ” تعالي يابنت ياچديدة تعالي .. اقعدي هنا. “

ثم وجهت كلامها إلى أمنا كيريا وقالت :

“بصي ياأمنا كيريا، البنت دي هتبقى ريسة على الدير وان كنت انا عايشة هافكرك وان كنت في السما هتقولي الله يرحمها افروسينا قالت “.

وبعد كده وجهت لي الكلام وقالت: ” إنتي هتبقى ريسة هنا وهتمسكي الدير وفي عهدك هيبقى فيه راهبات كتير وهترسمي راهبات كتير والدير هيتغير وهيبقى منارة وهتبني فيه مذابح كتير”
فقالت لها : “إيه ياأمي، هي لسة فيران الدير حست بيها !!” (يعني محدش لسة حس بوجودها).
قالت : “فيران ما فيران أنا بأقول لك هي ديا .. وأبقى شوفي”.
وأنا ولا جه في بالي ولا فكرت في هذا الكلام ولم يدخل في ذهني ولا في قلبي برغم أني كنت أعرف تماماً بقداسة هذه الراهبة.

 

وبعد عدة أشهر من دخول أمنا ايريني الدير، بدأت تعاني من صداع شديد وألم في عينيها، فتوجهت بها أمنا كيريا اسكندر إلى العديد من أطباء العيون ولكن دون جدوى .. وبناء على طلب الأم الرئيسة، اصطحبتها إلى أبونا القمص مينا المتوحد البراموسي (البابا كيرلس السادس) في مصر القديمة ليصلي لها .. وتروي أمنا ما حدث :

“وضع أبونا مينا ايده بالصليب على رأسي وصلى لي لمدة طويلة، ثم قال لأمنا كيريا :

“البنت دي بتقرأ كتير وبتسهر والشيطان متغاظ منها، فالصداع اللي عندها ده حرب من عدو الخير .. بصي يا أمنا كيريا دي هتكون ريسة عليكم وهيكون أيامها كذا .. وكذا .. وكذا .. وهيبقى في عهدها أكتر من مذبح في الدير وراهبات كتير..”.


قالت : ” إيه اللي بتقوله ده يا أبونا ؟ ”
قال : “بصي يا أمنا كيريا، أنا لو كنت عايش هأفكرك ولو رحت السما افتكري “.
ردت : ” ربنا يخليك لينا ” ومشينا.

 

الثلاث مقاراتوتستطرد أمنا في حديثها عن إعلانات السماء فتقول :
“في ليلة حلمت بثلاثة أشخاص منيرين لابسين صلبان على صدورهم وفي أيديهم صلبان، وشوفتهم بيحضروا كرسي وبدأوا يأخذون مقاسات، فسألتهم بتعملوا ايه .. أجابوا : ” احنا بنعمل ليكي كرسي على قدك وبنقيسه علشان يطلع مضبوط .. ”
سألتهم : ” انتوا مين ؟ “.
قالوا : ” احنا الثلاث مقارات “.
مافهمتش حاجة، فحكيت ببساطة لأب الاعتراف، فقال لي : ما تخديش في بالك .. ”
ولم يكن عندي وقت لأفكر في هذه الأحلام ولا في اللي قاله، كنت بأنساها تماماً، لكن في ليلة أخرى حلمت حلم كان أقرب إلى الرؤيا وتعجبت منه جداً .. وعلى الفور قمت وذهبت إلى قلاية أمنا الريسة لأني كنت أقوم بخدمتها، وكانت مريضة في ذلك الوقت، فكان من المعتاد أن أذهب للاطمئنان عليها في الليل يمكن تكون محتاجة شيء .. فقلت لها في بساطة :


“يا أمي أنا شفت حاجة كأنها رؤيا وكنت بين صاحية ونايمة. ”
فسألتني شوفتي ايه، فقلت:


“شفت كأني عندك هنا في القلاية، وجه ثلاثة أشخاص في زي رهبان وكانوا مضيئين جداً ولابسين صلبان وفي أيديهم كمان صلبان، وكنتي ياأمي واقفة وفي إيدك قنديل زيت وفيه فتيلة، فأخذوا القنديل من إيدكي اليمين وحطوه في ايدي وحطوا المفاتيح في الايد الثانية “.
فابتسمت وقالت : ” دولا كان عندي وبعد كده راحولك”. فقلت لها : ” مين دول؟
فضحكت وقالت : “الثلاثة رهبان هما الأنبا أنطونيوس والأنبا شنوده رئيس المتوحدين والأنبا باخوميوس، وهما جولي وأنا كنت بأصلي لربنا علشان يكشف لي مين هتاخد المسئولية بعدي والرؤيا معناها انك همسكي المسئولية بعدي، ويا ريت تمسكي في حياتي وأفرح بيكي “.
قلت : ” إنتي كده بتحبيني .. ” قالت : ” أنا بأحبك قوي “.
قلت : ” لا .. انتي كده مش بتحبيني ” قالت لي : ” ليه ؟ ..
قلت : ” لأنك انتي شايفة المر “.
قالت : ” فعلا أنا شايفة المر “.
قلت لها : ” طيب توريني المر ليه ؟ ”
قالت : ” معلش يابنتي علشان الدير .. ”
كانت عايزة تتنحى عن رئاسة الدير، وكانت بتضغط عليا علشان أمسك المسئولية وتجيبها من ناحية إنها هتفرح بيا وتطمئن على الدير، فكنت أقول لها :

” تفرحي بيا إيه .. دا انتي هتحزني عليا..، وفضلت أعيط جامد قوي .. وفي الآخر سابتني وقالت لي :

” ما تعيطيش، بس الحلم تفسيره كده وإنت اللي هتمسكي بعدي “.

توالت الأيام وأراد البابا كيرلس السادس أن يرسم رئيسة لدير الشهيد مارجرجس للراهبات بمصر القديمة فاستدعى أمنا إيريني لتتولى هذه المسئولية ولكنها رفضت فانتدبها للاهتمام بشئون الدير إلى حين سيامة ريسة له. وكانت تذهب إلى دير الشهيد مارجرجس في الصباح وترجع إلى ديرها في المساء، وكانت أمنا كيريا إسكندر تذهب معها كمرافقة .. وتروي لنا أمنا لنا عن هذه الأيام وتقول :

“كنت أقابل زوار الدير وأنزل معهم إلى مزار الشهيد وأسجل بيانات الوارد والمنصرف، كنت أشعر إني مشتتة باهتمامات كثيرة. فقلت ذات يوم في داخلي: “بأقول لك إيه يا مارجرجس إنت دمك تقيل .. أنا لا عايزاك ولا عايزة ديرك .. “ وفوجئت بأن سلسلة المفاتيح بأكملها – وبها مفاتيح البوابة ومزار الشهيد ومخازن الدير والمكتبة – اتسحبت من إيدي، فجريت على أمنا كيريا وقلت لها: ” الحقيني .. المفاتيح كلها اتسحبت من إيدي .. “.

فقالت لي : ” يعني إيه اتسحبت ؟! تعالي ندور .. ” فأكدت لها إني بحثت عنهم في كل مكان ولم أجدهم. ثم طلبت منها أن تحضر نجاراً ليعمل مفاتيح، فأخبرتني بأن الوقت متأخر ومن الصعب حضوره، ثم قالت لي في هدوء: ” تعالي يا إيريني، اعترفي إيه اللي حصل بينك وبين مارجرجس “.

قلت لها : ” هأقول لك، في الحقيقة أنا قلت له : ” إنت دمك تقيل، أنا لا عايزاك ولا عايزة ديرك “.
قالت لي : ” إيه اللي عملتيه ده ! .. طيب قومي اعتذري للشهيد “.
قلت لها : ” هو يزعل ليه من الحق ؟! ما ده شعوري وأنا مش حاسة إني غلطانة” لكنني في الحال أدركت غلطي وشعرت بانسحاق وقعدت أبكي وأعاتب نفسي وأقول ازاي يصدر مني مثل هذا التصرف وأتكلم مع شهيد عظيم بهذه الطريقة ؟! وقمت بعمل مطانيات له وقلت له : ” أخطيت سامحني يا شهيد الرب ” وكنت أبكي بشدة .. فقالت لي : ” كمان بتبكي .. طيب اقعدي .. “.
أجلستني بجوارها على كنبة، ولم يمر سوى وقت قليل حتى فاحت ريحة بخور شديدة جداً لدرجة أن جسمنا قشعر وسمعنا صوت المفاتيح بيشخلل في الجو ورأينا سلسلة المفاتيح وهي بتقع بيننا .. تعجبنا جداً لعمل الله العجيب وحنانه ومحبة الشهيد، وهنا تذكرت موقفه المماثل مع والدتي عندما أعاد لها كردان الذهب المفقود.

 

ارشد الله بعد ذلك قداسة البابا كيرلس السادس إلى سيامة الراهبة كيريا إسكندر كرئيسة لدير الشهيد مارجرجس في ٢٦ سبتمبر عام ١٩٦١ م بيد المتنيح الأنبا ثاؤفيلس رئيس دير السريان  (١٩٤٨ – ١٩٨٩ م) والمتنيح الأنبا كيرلس مطران البلينا  (١٩٤٨ – ١٩٧٠)  وكانت أول رئيسة لدير راهبات في عهد قداسته.. فشعرت بالراحة بعد انتهاء هذا الموضوع على خير وإني نجوت منه.

في الحقيقة كانت أحاول بكل الطرق الهروب من الرئاسة لأني كنت متأكدة أنه لا يمكن أن أكون ريسة في دير أبو سيفين لأني أصغر راهبة ويسبقني راهبات كتير فاضلات ويصلحن لهذه المسئولية. فإذا أمكنني التخلص من الرئاسة في دير الشهيد مارجرجس، أكون بعد ذلك قد أبعدت هذا الموضوع عني .. إلا أنه لم تمر عدة أشهر وكانت أمنا ريسة دير أبو سيفين مازالت على قيد الحياة – شفت أبو سيفين وقال لي : “اسمعي أنا مش عايز حد يمسك الدير غيرك .. تقولي أقدر ماأقدرش .. أنا أصغر الكل .. أنا مش عاوزة .. أنا جاي أقول لك إلهي عاوز كده، وأنا عاوز كده “ ولقيته بيلم المفاتيح من أمنا إيلاريا ومن كل راهبة مسئولة في الدير ويحطهم في دوبارة وعاوز يرميهم عليا وراح معلقهم على صدري ..
قعدت أقول له : ” إيه ده ؟ ” وهو يقول : ” دول مفاتيح ديري، مش عايز حد غيرك يمسكه .. إنت اللي هاتمسكيه .. “
قلت له : ” وأنا مالي .. لأ .. ” وخلعت المفاتيح ورميتها له وقلت له : ” أنا مش عايزاهم “

ولكنه كان بيرجع يحطهم تاني .. وبعدين شدني وقال : ” مفيش غيرك يعني مفيش غيرك “.
كتمت على الخبر ولم أخبر به أحداً : لا أب الاعتراف ولا أمنا كيريا الريسة، لأنها كانت عايزاني أمسك المسئولية وهي عايشة..


ولكن لم تمر سنة على رئاسة أمنا كيريا اسكندر لدير الشهيد مارجرجس بمصر القديمة حتى تنيحت أمنا كيريا واصف رئيسة دير أبوسيفين في سبتمبر ١٩٦٢م. وفي اليوم التالي حضر للصلاة عليها الأنبا كيرلس أسقف البلينا، وفوجئت به يعطيني جواب من البابا كيرلس يخبرني بتولي مسئولية الدير والاهتمام به، فرفضت استلام الخطاب وقعدت أبكي .. كان الأنبا كيرلس متعجباً ويقول : “معاها حق دي عيلة، هيعملوا حتة عيلة ريسة ؟! .. إيه ده .. ده كلام !! أنا مش عارف إيه اللي جرى للبابا كيرلس مع إنه طيب وقديس وحكيم، لكن اللي هيعملها رئيسة دي عيلة ..”


وقال لي : “بأقول لك إيه يا بنتي .. بصي يا أمنا انتي تستلمي الجواب ده وماتقوليش لأ، لأن ده أمر البابا ومانقدرش نرجع له الجواب تاني، وبعدين روحي واتفاهمي معاه “. وضغط عليا أعمل كده ..
وكنت بأقول له : ” طيب إزاي تيجي .. إزاي ؟ ”
فيقول : ” معاكي حق .. انتي عيلة، مش هينفع .. ”
فقامت أمنا إيلاريا باتضاع شديد تقبل رأسي وطبطبت عليا وقالت : ” كفاية بكا .. اقبلي كلام سيدنا ما تقوليش لأ .. والتقيلة علينا والخفيفة عليكي “.

وقلت لها : ” إزاي يا أمي دي تيجي .. ما أقدرش ؟! ” فقالت لي : ” بس مالكيش دعوة .. “.


في ذلك الوقت عرف والدي الموضوع ده، ولقيته باعت لي جواب على غير عادته وبيقول فيه: “لا انتي بنتي ولا أعرفك لو قبلتي رئاسة الدير، تعالي عندي بسرعة واهربي وأنا هأخبيك وأقول مش موجودة لغاية ما يرسموا ريسة وأمور الدير تستقر، وبعدين ترجعي “.

مقدرتش ابطل بكاء، وذهبت إلى سيدنا البابا كيرلس السادس وقلت له : ” إزاي ياسيدنا دي تيجي ؟! أنا ما أنفعش .. دا غبطتكم ما أخدتش اعترافاتي ومتعرفنيش .. دي مرة واحدة بس اللي شفتني فيها على الماشي لما صليت لي علشان الصداع .. “.
فقال لي : ” طيب مين ينفع ؟ ”
قلت : “أمنا إيلاريا دي راهبة فاضلة كبيرة وعاقلة وهي ربيتة الدير ولها تزكية من كل الراهبات لتكون الريسة، وفيه كتير غيرها ينفعوا ريسات زي أمنا فيبي”.
قال لي : “ياه صحيح، دي أمنا إيلاريا كانت رايحة من بالي.. طيب خلاص.. ده سر بيني وبينك أوعي تقولي لحد.. هي دي.. أمنا إيلاريا اللي الراهبات مزكيينها.. هي اللي هانعملها.. ما تزعليش.. وماتقوليش للأمهات وأنا هأطب على الدير وأرسمها “. فشكرته ودعيت له ..
صدقت كلام سيدنا، ولم يخطر على بالي إنه بيهديني فقط أو بيضحك عليا .. لكني أخذت الكلام ثقة ورجعت فرحانة جداً .. ولم أكن أعرف أن امنا كيريا رئيسة دير مارجرجس كانت قد أبلغت قداسته من قبل ان عندي نية للهرب مما جعله يلجأ لهذه الوسيلة معي، وقد تعجبت الراهبات جميعاً عند رؤيتهن لي بعد رجوعي من مقابلة سيدنا البابا، وسألوني عن سبب فرحي وهدوئي بعد أن كنت لا أكف عن البكاء، فأعلمتهن بأن سيدنا صلى لي – وهو فعلاً صلى لي – ولم أخبرهن بشيء لأنه أوصاني بذلك ..

 

“في باكر يوم الاثنين ١٥ اكتوبر ١٩٦٢م الموافق ٥ بابه ١٦٧٩ش بعد انتهائنا من صلاة التسبحة  بكنيسة الشهيد أبي سيفين الأثرية الموجودة حالياً  خارج سور الدير وقبل رجوع كل راهبة آلى قلايتها، وجدنا القمص بولس البراموسي، أب اعتراف الدير وقتها والذي أصبح فيما بعد الأنبا مكاريوس أسقف قنا (١٩٦٥-١٩٩١م) يحضر ويخبرنا بأن سيدنا سيصلي قداساً في كنيسة الشهيد أبي سيفين، ثم سألني:

“انتي شربي حاجة؟” فأجبت “لا، ماشربتش .. ما احنا لسه بنصلي” لأن قانوننا الرهباني يقتضي أن نتمم صلواتنا الى الساعة التاسعة قبل ان نتناول أي طعام أو شراب.

فقال لي: ” كويس علشان تتناولي وتأخذي بركة.”

فأستأذنته للذهاب آلى قلايتي لأغسل وجهي وارتدي ملابس الكنيسة.

فقال : “الأمهات يحضروا لك الملابس.”

هنا بدأت أشك في الأمر، فقلت له: “أوعى يكون فيه حاجة تاني؟

قال : ” هيكون إيه ولا حاجة تاني “.
قلت : ” وقعتك بيضا .. ”
تعجب جداً وقال لي : ” إنتي عمرك ما قلتي الكلمة دي لراهبة أختك، تقوليها لأب اعترافك؟!”
قلت له : ” أعمل إيه ! هل بتفكروا تعملوها فيا ؟ ”
وهنا بدأ يتضح الموقف وكنت أبكي بشدة فقال للراهبات : ” هاتوا لها الملابس.. “

وفي الحال قادني أبونا بإيديه الاتنين وكان بيجرني على الكنيسة والراهبات يبزقوني من الخلف زي حاجة بيسوقوها للذبح .. كانوا بيشدوني وأنا أبكي والراهبات من حولي .. كأنها جنازة وأنا الميت.

عندما رأي الأنبا يوأنس أسقف الخرطوم  ( ١٩٤٧ – ١٩٦٨ م) الذي حضر في ذلك اليوم بدعوة خاصة من قداسة البابا كيرلس، هذا المشهد ظل يبكي .. ولم يمهلني الأنبا كيرلس أسقف البلينا حتى ان اقول كلمة وقام برفع الذبيحة. لقد أرسل البابا كيرلس السادس الأباركة وقربان الحمل من البطريركية واسكيمه الخاص ليلبسه لي.. كان قداساً مهيباً .. تعجب الجميع من قراءات ذلك اليوم فهي التي تتلى في رسامة الآب البطريرك وكان إنجيل القداس (يو ١٠ : ١- ١٦ ) عن الراعي الصالح.. كنت أبكي بشدة وكنت أطلب من الله المعونة وأن يتعهدني بمراحمه ويرشدني”.

” أنا هو الراعي الصالح. والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف .. أما أنا فإني الراعي الصالح وأعرف خاصتي وخاصتي تعرفني. كما أن الآب يعرفني وأنا أعرف الآب. وأنا أضع نفسي عن الخراف. ولي خراف آخر ليست من هذه الحظيرة ينبغي أن آتي بتلك أيضاً فتسمع صوتي وتكون رعية واحدة وراع واحد “.

توجهت بعد ذلك لزيارة البابا كيرلس وعاتبته بمحبة .. وقلت له:

“أنا أعمل إيه يا سيدنا دلوقتي لبست الاسكيم هاحتاج وقت علشاني أتمكن من إتمام صلاة المزامير مرتين، والتسبحة، وضرب المطانيات التي تصل إلى ٧٠٠ مطانية .. كيف أوفق القانون الذي يقتضيه الاسكيم مع الخدمة والشغل ؟
قال لي : ” طول ما إنتي رايحة وجاية رددي المزامير، وصلي .. “.
قلت : ” كده يا سيدنا تعملوها فيا “.
فقال لي : “يا بنتي أنا صليت كتير ولقيت إن دي إرادة ربنا وماقدرش أعمل غيرها “.

 

وبمجرد أن تولت أمنا رئاسة الدير وأصبحت تماڤ ايريني، أرادت أن تنهض بالحياة الرهبانية، فلم تفتر عن الصلاة لله ليرشدها إلى النظام الرهباني الذي تتبعه في الحياة الديرية كرئيسة ومسئولة، فتقول :

“كان النظام السائد بالدير لا هو حياة وحده ولا هو حياة شركة، فكانت هناك وجبات توزع على الراهبات وفي نفس الوقت يمكن لكل راهبة أن تطبخ لنفسها وتأكل في قلايتها .. فلم يكن بالدير نظام المايدة الواحدة لكل الراهبات، وكانت صلاة المجمع مرة في اليوم .. ولم يكن من السهل عليا أن أعدل نظام الدير لأني وسط راهبات كثيرات أكبر مني تعودن على حياة معينة فخصصت ثلاثة أيام صوم وصلاة ومطانيات .. كنت بأصلي وأطلب من ربنا أنه يرشدني ويسمعني صوته لمعرفة النظام الناجح .. وفي ليلة وأنا بأصلي وأبكي وأقول له يا رب المكان مكانك والرهبات بناتك، ولقيت قدامي ملاك أخذني إلى الفردوس.

سجدت أمام رب المجد وكان عن يمينه الست العدرا .. فقال للملاك :

“خذها عند الأنبا باخوميوس لتسمع منه عن نظام الشركة اللي أنا عايزها تتبعه “.

فسار الملاك بي في ممر طويل منير جداً حيث رأيت عرشاً كبيراً مرصعاً بصلبان كأنها من ألماظ وكان جالساً عليه شخص بهيّ مضيء جداً يرتدي ثياباً فاخرة كلها صلبان مذهبة وفي ايده صليب.. رأيت في الممر الطويل ألوف وربوات من الرهبان والراهبات في ثياب بيض على الصفين، وقال لي الملاك:”ادخلي سلّمي على الأنبا باخوميوس، دول كلهم أولاده اللي سلكوا في حياة الطاعة لأبيهم، وبيجوا دايماً باستمرار ويقعدوا معاه “.
وقفت في مكاني أنتظر دوري، ثم سمعت الأنبا باخوميوس بيناديني :“تعالي ياايريني” فشعرت برهبة شديدة وتقدمت نحوه وعملت مطانية وقبلت ايده والصليب اللي في ايده .. وقال لي : ” إنتي بقى ليكي ثلاثة أيام صايمة وبتصلي وبتطلبي من ربنا يرشدك لنظام الدير، فربنا عايزك تتبعي نظام الشركة في الدير لأنه أسهل نظام يوصل للسما وهو أمان لأن الطريق الوسطى تخلص كثيرين .. فربنا عايزكم تعملوا به وأنا أحبك تنفذيه وهأصلي من أجلكم .. ابدئي وربنا معاكم ويبارككم “.
فسألته : ” إيه هو نظام حياة الشركة ؟ ”
قال : ” عاملي الجميع معاملة واحدة، والكل يأكل على مايدة واحدة، ويكون لهم زيّ واحد .. عندكم في المكتبة مخطوط مكتوب فيه نظام حياة الشركة وقوانينها “.

وفعلاً وجدت المخطوط، وتعجبت جداً انه لم يسبق لي قراءته، فبدأت أشعر بالخوف وأخشى أن اكلم الراهبات عن النظام الجديد، أعطاني الرب شجاعة وجرأة وعرضت الموضوع عليهن، وكان عددهن في ذلك الوقت اثنين وخمسين راهبة وأنا أصغرهن.

الباخومية وأطبق قوانينها. وبعد ما كنت أشعر بالخوف وأخشى أن أكلم الراهبات عن النظام الجديد، أعطاني الرب شجاعة وجرأة وعرضت الموضوع عليهم.. وكان عددهم في ذلك الوقت اثنين وخمسين راهبة وأنا أصغرهم ..

طبقت نظام المايدة على جميع الراهبات ورحبت الأغلبية بالفكرة ونزلوا بفرح إلى المايدة ومن تخلف عن الحضور في البداية، انتظم بعد كده. وكنت أقرأ أثناء المايدة بانتظام من كتاب بستان الرهبان وسير القديسين .. وقد حضر الأنبا باخوميوس أب الشركة بنفسه وبارك أول صلاة شركة وأول مايدة .. وساد الفرح والسلام. وشهدت واحدة من الراهبات الكبار قبل نياحتها لتماڤ ايريني بما بذلته من جهد وما كابدته من متاعب، فقالت لها :

“سامحيني يا أمي، إحنا أخطينا، ياما قاومناك وتعبناك، وانتي أسرتينا بمحبتك واحتمالك”.

وكان أيضاً من المعتاد عندما التحقت بالدير أن يدخل الباعة الجائلون والتجار إلى الدير للبيع والشراء، فقمت بمنع هذا الموضوع تماماً.

طبقت نظام صلاة الشركة، فأصبح المجمع يقوم بالصلوات ثلاث مرات في اليوم : نصف الليل والتسبحة، ثم باكر إلى السادسة أو التاسعة، وفي المساء باقي الصلوات حتى الستار .. وكان النظام المتبع من قبل هو أن تجتمع الراهبات مرة واحدة فقط في المساء ليشتركن معاً في صلاة الغروب.

تحكي لنا تماڤ ايريني عن فرح السماء بصلاة نصف الليل والتسبحة وكيف ينال تعزية كبيرة من يداوم عليها بفرح :
” لما طبقنا قانون حضور صلاة نصف الليل والتسبحة في الكنيسة، باركت الست العدرا الصلاة وكانت كل واحدة نازلة من قلايتها إلى الكنيسة لتصلي بفرح، تبتسم لها وتعطيها قنديل منور.. واللي تكون متضايقة وتنزل خوفاً من القانون، تعطيهاقنديل مطفي .. فكم وكم الكسلانة اللي مش بتنزل من قلايتها، طبعاً لا بتاخد قنديل منور ولا مطفي .. فكانت بركة العدرا تعزية كبيرة للأمهات اللي بينزلوا باستمرار .. “.

كما روت لنا تماڤ عن أمثلة عديدة تؤكد فرح السماء ومباركتها للصلاة والتسبيح، وقد عاينا بعضاً منها، فتذكر أنه في منتصف الليل وأثناء صلاة تسبحة أول كيهك في كنيسة الشهيد أبو سيفين بالدير، لاحظت جميع الراهبات أن الكنيسة تمتلئ ببخور ذو رائحة عطرة جداً وكثيف للغاية، فاندهشوا جداً وشعروا بفرح عجيب. وبعد انتهاء الصلاة، أخبرتهم تماڤ بأنها رأت السيدة العذراء متجسمة من صورتها الموجودة على حجاب المذبح وأمامها البابا كيرلس الخامس والأنبا أبرآم أسقف الفيوم وفي أيديهم مجامر .. وقد دخلوا المذبح وداروا حوله ثلاث دورات بالبخور ثم مروا على جميع الراهبات وكانت السيدة العذراء تباركهم وخلفها البابا كيرلس الخامس والأنبا أبرآم وبعد ذلك دخلوا المذبح مرة ثانية واختفوا .. وشعرت كل واحدة من الراهبات ببركة هذه الزيارة السمائية المعزية : فمن كانت تعاني من ألم في المعدة، زال ألمها ومن كانت تعاني من صداع لم يعاودها مرة ثانية “.

هذه البركات والتعزيات السمائية التي تجلبها التسبحة تثير غيظ عدو الخير، وهنا تسجل لنا تماڤ ما حدث أثناء الصلاة لأول مرة في كنيسة أبو سيفين بالدير وكان ذلك في عشية يوم الأحد من التسبحة الكيهكية، فتقول :

“كانت الصلاة تتسم بروحانية شديدة، وفجأة سمعنا عجل بينعر بصوت مفزع كأنه على باب الكنيسة، وعندما فتحنا الباب لم نجد شيئاً .. فتأكدنا أن ذلك من قبل عدو الخير .. “.

 

هذه الاختبارات الروحية تفسر الاهتمام الخاص الذي أولته تماڤ للألحان الكنسية. فمنذ حداثة سنها وهي في بيت والدها، كانت تحرص على تعلمها وحفظها مع المعلم عزوز معلم الكنيسة في جرجا لدرجة أنها كانت تصرف كل مصروفها على حفظها .. وقد استمر هذا الاهتمام بعد رهبنتها في الدير مع المعلم ميخائيل الكبير والمعلم تادرس والمعلم لويس، وذلك لإيمانها بأن الألحان هي ذخيرة الكنيسة.

ومع اهتمامها بترسيخ حياة الشركة وحث بناتها على الانتظام في الصلاة والتسبحة، أحسّت بضرورة بناء كنيسة خاصة بالراهبات داخل الدير. وكان الهدف أيضاً أن تتمكن الراهبات المسنات من حضور القداسات والتناول من الأسرار المقدسة، وبالفعل اهتمت منذ العام الثاني لرئاستها ببناء كنائس داخل الدير فأصبح الآن به أكثر من مذبح كنبوة البابا كيرلس السادس.

كما حرصت على تنمية بناتها روحياً بالقراءة في الكتب الرهبانية وسير القديسين، لذا وجهت عناية كبيرة لإنشاء مكتبة خاصة للراهبات داخل الدير.
وهكذا أرست تماڤ إيريني، بعد جهاد شاق وصعاب كثيرة، أسس حياة الشركة الباخومية في دير أبوسيفين العامر وهو النظام الذي طبق بعد ذلك في بقية الاديرة. وفي تطبيق هذا النظام ولأي قانون فيه كانت – كأم روحية – لا تطلب من أي راهبة ما هو فوق طاقتها .. وكانت تسكب محبتها للكل بالتساوي وكانت لا تفرق بين راهبة أو أخرى إلا المريضة أو الضعيفة .. كانت كأم قائدة ومدبرة لبناتها في الطريق إلى الله تقودهن بطول أناة وصبر واحتمال، فتطلب إتمام الواجبات دون ضغط أو إلحاح. وكانت لها ثقة وإيمان أن المسيرة الناجحة لحياة الشركة لن يكون أمامها أي عائق. كما كانت تتكلم تشجع وتحذر وفي كل كلمة تعطي الإرشاد المناسب لكل واحدة، ولا تدع الضيق أو اليأس أو الضجر ينتصر عليها .. كانت تعلم بناتها الراهبات أن ملكوت الله لا يقتني بالذهب أو بالفضة ولكن بالتواضع ونقاوة القلب والمحبة الصادقة للجميع بلا تمييز .. وتنصح كل من تريد خلاص نفسها بضرورة التمسك بتعاليم رب المجد..

في تأسيسها لحياة الشركة وفي النهضة الروحية والعمرانية التي قامت بها، كانت تماڤ ايريني دائماً معضدة بالمعونة الإلهية التي كانت سر نجاحها وانتصارها. وقد حكت لنا أنها بينما كانت تصلي في ليلة من أجل موضوع معين لكي يتمجد الله فيه، رأت أمامها السيدة العذارء أم النور تتجسم من الصورة المدشنة الموجودة بقلايتها وأنارت القلاية بنور سمائي بهي .. ورشمت والدة الإله عليها علامة الصليب المحيي واتجهت نحوها وابتسمت قائلة :


” بنعمة ابني الحبيب ناجحة .. ناجحة .. ناجحة “.

وهكذا كانت السماء تعزي تماڤ ايريني وتبارك خطاها وتشعرها بحب من مات لأجلها فاشتهت أن تبادله بشرارة صغيرة من ذلك الحب العجيب .. فكانت تتأجج دائماً داخلها شهوة الاستشهاد التي كثيراً ما كانت تطلبها في صلواتها حتى في وسط آلامها وأمراضها الكثيرة التي احتملتها منذ البداية بفرح. وقد استجابت السماء لهذه الطلبة فحكت لنا أثناء إحدى رحلاتها العلاجية في سويسرا وتصادف وجودها هناك في يوم عيد تكريس أول كنيسة لأبو سيفين (الأول من أغسطس عام ٢٠٠١ م) فقامت بعمل تمجيد للشهيد وأثناء صلاتها ليلاً ظهر لها الشهيد وقال :

“ربنا سامح لك بالآلام الجسدية دي لأن ده صليب وهتاخدي عليه مجد، واحتمالك للآلام بشكر يعتبر استشهاد مش انتي دائماً بتطلبي من ربنا انك تستشهدي علشانه؟ آهي الآلام دي استشهاد وأنا بأصلي دائماً من أجلك وإلهي معك ..”.

وقد كرر لها الشهيد في ظهوره في أكثر من مرة أن أمراضها وآلامها هي بمثابة استشهاد، خاصة أنها تتحملها بشكر ووعدها أن “ربنا هيعطيك بركات وتعزيات، فالصبر والشكر له إكليل زي الشهداء ..”.

تكرر حصول تماڤ ايريني على هذه الوعود والتعزيات السمائية، وقد دار بينها وبين والدة الإله في إحدى زيارتها لها الحوار التالي :
قالت الست العذراء : إنتي عايزة تستشهدي ؟
فقلت لها : ” ياريت ياست يا عدرا، بس أنا ضعيفة وغلبانة، لكن لو وقفتي معايا استشهد .. لأن بدون معونتك هأخور في الطريق “.
فقالت : ” كل ما تحتملينه من آلام وأمراض ومتاعب وأوجاع وضغوط نفسية هو استشهاد “.


وتروي لنا مرة أخرى : ” أثناء إحدى رحلات العلاج في الخارج، كنت بمفردي فانتهزت الفرصة وقلت أصلي .. ولقيت الحجرة نورت ولأول مرة ظهرت الست العدرا مش علشان تبلغ رسالة لكن علشان تصلي معايا، وكانت تقف على يميني وأبو سيفين على شمالي وقالت لي : ” ياللا ياإيريني نصلي “. بدأت الست العذراء الصلاة وقالت :

“إلهي العظيم وابني الحبيب أشكرك .. وأسبحك .. وأمجدك .. وأقدسك أرجوك اقبل مني أنا والدتك التي تجسدت منها وأعطيتني من مجدك ونورك.. ارفع غضبك .. تأنى على العالم .. واصبر عليه .. هو صحيح بيجرح حبك اللي غمرت به كل البشرية وعملت أعمال حلوة كتيرة .. مهما قلت مش هأقدر أوفيك حقك، لكن تأني يا إلهي العظيم وابني الحبيب على البشر وارفع يدك، فهم ضعفاء وماتزعلش منهم من أجل محبتك وصليبك ودمك .. واللي بيرضوك زود محبتهم لك .. والبعيدين عنك تأني عليهم واجذبهم لك “.

وذكرت الست العدرا في صلاتها الكنيسة في مصر والأديرة والأساقفة والكهنة .. وصلت للعالم كله وأخيراً دمعت عيناها وقالت : “ابنتك إيريني تشتهي الاستشهاد، ولكن لتكن إرادتك وإعطيها لو اردت نعمة وقوة. آمين “.
هذه الرغبة في الاستشهاد جعلتها تحتمل صليب المرض بفرح وشكر عجيب أثار دهشة كل من عاين آلامها. وكثيراً ما وقف الأطباء في حيرة أمام أمراض تماڤ ايريني التي تفوق إدراك الاطباء .. وعاشت تماڤ ايريني ٤٤ عاماً كرئيسة لدير أبو سيفين وكان احتمالها عجيب لصليب المرض الذي كان استجابة لطلبها من السماء منذ بداية رئاستها للدير. وكانت قد رأت في البداية عدم وجود محبة بين الراهبات ومشاكل كثيرة بينهم فقالت انها لا تستطيع تحمل عدم المحبة وطلبت صليب المرض وقالت ان آلم المرض مهما ان كان اخف من الم عدم المحبة. واستجابت لها السماء ومنذ وقتها ساد السلام في الدير بين الراهبات وايضاً بين الخدام والزوار. وقد اجريت لأمنا اكثر من ثلاثين عملية جراحية تحملتها في صمت وشكر وفرح. وانطلقت روح أمنا الغالية بسلام في الساعة السابعة مساء يوم الثلاثاء ٣١ اكتوبر ٢٠٠٦م  (٢١ بابة ١٧٢٣ ش) وكان يوافق يوم تذكار السيدة العذراء مريم والدة الإله. وقد زارها في نفس مساء هذا اليوم في مركز الحياة بمصر الجديدة نيافة الانبا ارسانيوس أسقف المنيا وابوقرقاص وبعد أن قام بعمل صلاة أوشية المرضى وقرأة التحليل، سمع صوت تماڤ تقول:

الآن ياسيد تطلق عبدتك بسلام


وخرج باكيا. ويظل هذا اليوم محفوراً في قلوب جميع الراهبات والخدام واحبائها اللذين لا حصر لهم. يوم لا يمكن ان ننساه فيه رحلت ام غالية جداً على الجميع، أم كانت تصلي بحب لكل من طرق بابها وايضاً من لم يطرق. أم فتحت لنا باب السماء واشعلت في قلوب كل من قابلوها حب الله. كانت قديسة معاصرة عظيمة ليس لها مثيل. وقد أجرى الرب على يديهاالآف من المعجزات يشهد عليها اليوم كل من اخذ بركة مقابلتها ومازالت تجري الآن الآف من المعجزات مع كل اللذين يطلبون صلواتها سواء كانوا يعرفونها أثناء حياتها أو لا لأنها أحبت وتحب الجميع بلا استثناء مقتدية بإلهها العظيم الطيب والحنون.

سيتم استكمال سيرة أمنا الغالية هنا.

هذا العمل مأخوذ من موقع.
www.tamavireneforall.com

المراجع:

تماف ايريني – جوهرة السماء ومنارة الرهبنة – دير الشهيد العظيم أبي سيفين للراهبات بمصر القديمة

الأولوف الذين تقابلوا مع تماف ايريني واللذين عاصروها سواء من مصر أو خارجها.

موقع www.tamavireneforall.com